قصة ... انما الأمم الأخلاق


استفاق بالكاد ، ذلك الثقل الضخم الذي كان يشد رأسه الى المخدة ، جعله يظن انه لن يستفيق أبدا . حين فتح عينيه أحس بصداع رهيب يشق رأسه ، لكنه اندهش كثيرا وهو يرى نفسه داخل غرفة رديئة ومتسخة ، ربما كانت سببا آخر زاد من ألم رأسه . ذهب الى المرحاض كي يغسل وجهه ، فوجد صنبور الماء معطلا .

ملاءة الفراش كأنها لم تغسل منذ زمن بعيد ، بقع لاصقة وداكنة ، مخدة مهترئة ، ودفتي النافذة الوحيدة الخشبية منزوع منها بعض الألواح الصغيرة التي تؤلف مجمل النافذة .
احس انه وقع في كمين تلك العاهرة التي استدرجته أمس الى هذا الفندق اللعين . حتى صورتها لم يعد يتذكرها جيدا. كمية الخمر التي احتساها الليلة الأخيرة جعلته لا يتذكر الا وقت دخوله الملهى . حتى وقت خروجه مع تلك العاهرة لا يتذكره ، لكنه متأكد أنه خرج معها متأخرا . ربما كانا الأخيرين اللذين غادراه .
قلب جيوبه فلم يجد الا بعض الدريهمات . لقد جردته من كل ما بقي له من مال .
صداع الرأس ، صدمة المبيت ، وصداع الجيب ، جعله كل هذا يعود الى الفراش وينطرح فوقه مجددا ، يفكر في المأزق الذي ورط نفسه فيه .
الآن يحس انه يعب من الغرفة رائحة جد كريهة ، سرعان ما تلاعبت برأسه وذهب جريا نحو المرحاض ليتقيأ .
-بنت الكلب ، لو فقط اخذتني الى فندق محترم .-قال في نفسه بعد ان انتهى من التجشؤ .
خرج مهرولا نحو الشارع ، فأحس ببعض الراحة التي اتته كفسحة هائلة ، وكأنه خرج للتو من سجن رهيب ، شديد الرقابة ، ومن غرفة انفرادية جد ضيقة محشوة بالأزبال والنفايات كما يفعل سدنة الاذلال للشرفاء .
كيف حصل هذا ؟ هل يمكن أن أتورط في مثل هذه الظروف ؟ .
أخرج الدريهمات من جيبه ، عدها لعلها تكفيه لتناول الفطور ، كان المبلغ لا يكفي للافطار ، فقرر أن يكتفي بشرب كأس لبن حامض ، لعله يخفف من وجع رأسه ، ويفتح من ضيق صدره .
تفطن وهو في المحلبة أنه بدون حقيبة ، ترك الكأس فوق المنضدة وخرج كالصاروخ يجري نحو الفندق ، لم يسأل عامل الاستقبالات ، واندفع يقفز فوق الأدراج، الى أن وقف أمام باب الغرفة التي نام فيها ليلته .

سمع ضجيجا وصراخا ووقع اقدام تتجه نحوه من الأسفل . فتح الباب نظر في الغرفة يستكشفها شبرا شبرا ، ولم يعثر على حقيبته . ما عاد صداع الرأس يثير انتباهه ، أصبح ضياع الحقيبة هو ما يشغله .

دخل نحوه عامل الاستقبال مندفعا ، وهو يسأله من أنت ؟ ولماذا دخلت بهذه الطريقة ؟ . أجابه الأستاذ أنه نسي حقيبته هنا وجاء للبحث عنها .
رد عليه عامل الاستقبال أن الخادمة لم تترك لديه أي حقيبة ، واذا لم يخرج الآن سوف يضطر الى معاملته بما يليق .
اطرق الأستاذ رأسه أرضا وأدرك انه فعلا وقع في ورطة كبيرة . ندم كثيرا على سهرته وعلى اصطحابه مومسا الى مثل هذا الفندق .

اعتذر لعامل الاستقبال وانصرف .
أدخل يده في جيب سترته الداخلي ، ودق قلبه مرة اخرى . نكسة ثالثة تقع له في نفس اليوم . ضاع هاتفه . لابد وأن العاهرة سرقته .
كان يريد ان يتحقق من الساعة .
في الشارع علم من أحد المارة أن التوقيت هو الثالثة زوالا ، والمحاضرة التي من المفروض ان يشارك فيها بمداخلة ستبدأ عند حدود الخامسة .
لا نقود له ليجلس في مقهى قريبة من قاعة المحاضرة ، وعقله يكاد يطير من رأسه . لم يتعرض الى هذه النكسات يوما في حياته . حار في الوقوف على أسباب ما حدث له . ولماذا ؟ أما كيف فهو يعرف كيف تورط كل هذه الورطة الخانقة .

اخيرا استقر رأيه أن يمارس رياضة المشي الى ان يصل قرب قاعة المحاضرة ، ويتخذ له مكانا مقهى قريبة . حتما سيلتقي احد معارفه ، ويقرضه بعض المال الى أن يعود الى مدينته .
جلس في منصة المحاضرين ، والارتباك باد على محياه ، لم يستطع هضم ما حدث له .
كان عنوان اللقاء "انما الأمم الخلاق ما بقيت ..."
الورقة التي اشتغل عليها ، كانت بعنوان ، "الأخلاق حصن المجتمع الأخير " .
ضاعت الآوراق التي حضرها ، ولم تبق في ذهنه غير افكار مشوشة ، وحتى وان حاول ترتيبها فان حالته النفسية المنهارة لن تسعفه . فكر في الاعتذار عن القاء الكلمة . عينه تجوس الحضور في ذهول ، ثم توقف نبض قلبه أو هكذا أحس . 
احس ببرد شديد يغزو جسده وأفكاره ، ربما هي نفس العاهرة التي تجلس في المقعد الرابع من الصف الأول .
صوت أحد الأساتذة المحاضرين وحده ما يحسه يدخل اذنيه ، عيناه مسمرتان في الفتاة ، وهي تجلس بكل وقار وهدوء وصرامة تتابع المتدخل .

بعد لحظات ، حملت شيئا من تحت الكرسي ووضعته فوق ركبتيها . انها حقيبته ، هي ذاتها . لقد تعرف عليها . يستحيل أن لا يميزها بين آلاف الحقائب . ازدادت حيرته وكاد يخرج عن طوعه ويصرخ في وجهها لولا أنه تدارك الأمر .
ادخل رأسه بين يديه ، وراح يفكر بذهن لا يستقر على شيئ

بقلم : خالد الصعلي
Next Post Previous Post