هل تضع «إلهان عمر» حدًا للمثالية الأمريكية المُدعاة؟


في إحدى أمسيات عام 1991 أحاط نحو 20 مسلحًا بمجمع سكني في العاصمة الصومالية مقديشو، تقطنه الطفلة «إلهان عمر» وعائلتها. منعت الأبواب الحصينة المسلحين من اقتحام المنزل، فاكتفوا بإطلاق الرصاص عليه من الخارج ورحلوا.
لحسن الحظ لم يُصب أحد من الموجودين في المنزل بسوء، لكن الواقعة كانت إشارة كافية للعائلة لتدرك أن نيران الحرب الأهلية المستعرة في بلادهم لن تستثني أحدًا وستنالهم عاجلًا أو آجلًا.
بعد أيام من هذه الواقعة سيجمع أفراد العائلة أمتعتهم استعدادًا للفرار إلى كينيا. على متن الطائرة المتجهة إلى نيروبي، جلست إلهان، ابنة التسع السنوات، إلى جوار والدها، نور عمر محمد، تاركة حياة «اليقين والمرح» التي اعتادتها إلى المجهول وحياة «اللايقين» التي قادتها بعد ذلك بسنوات إلى «الكابيتول هيل» لتدخل التاريخ باعتبارها «أول امرأة مسلمة محجبة» تصبح عضوًا في الكونجرس!

الطريق الوعر إلى «الأرض الموعودة»

ولدت إلهان في الرابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1981 بمقديشو، لأسرة ميسورة الحال يعمل ربها،  نور عمر محمد، موجهًا في وزارة التعليم. كانت الأصغر بين أشقائها السبعة. توفيت والدتها وهي ابنة عامين، وتولى أبوها وجدها لأبيها، أبوقار، الذي كان يعمل مديرًا للنقل البحري في الصومال، تربيتها.
خلال عقد الثمانينيات كانت الصومال تموج بالاضطرابات والصراعات السياسية والقبائلية، التي سرعان ما تفاقمت وصارت حربًا أهلية عام 1991. اضطرت عائلة إلهان إلى الفرار بحياتها إلى كينيا المجاورة، حيث يمتلك جدها علاقات جيدة ستسهل لهم سبل العيش حتى يجدوا وسيلة للسفر إلى أي من دول العالم الغربي.
بعد الوصول إلى نيروبي، بدأ والد إلهان وجدها البحث عن وطن جديد للسفر إليه، لكن الهجرة إلى دول مثل كندا أو إنجلترا أو الولايات المتحدة لم تكن بالأمر اليسير، حتى على شخص ذي علاقات مثل الجد أبوقار. مع طول المقام وعدم وجود أفق مستقبلي، نفدت صلاحية علاقات أبوقار وأصبحت الحياة في نيروبي أصعب، فاضطرت العائلة إلى الانتقال لمخيم أوتانغا للاجئين، على مقربة من مدينة مومباسا الساحلية.
عاشت إلهان وسط نحو 30 ألف لاجئ على مساحة 4 أميال مربعة. كانت الحياة صعبة وقاسية، فانتظار استخدام المرحاض كان من الممكن أن يمتد لنصف يوم، وكان خطر الإصابة بالملاريا قائمًا طوال الوقت، هذا فضلًا عن خطورة الأوضاع في المخيم على السلامة الشخصية بسبب عمليات الاختطاف من أجل الفدية التي كانت مستشرية.
مكثت إلهان وعائلتها في المخيم لنحو 4 سنوات، ثم أتى الفرج على يد كنيسة لوثرية دعمت طلب العائلة لدخول الولايات المتحدة، وسافروا جميعًا عام 1995، على أمل أن يبدأوا حياة جديدة في «الأرض الموعودة».

أعين الطفلة تتفتح

استقرت عائلة إلهان أولاً في مقاطعة أرلنغتون بولاية فرجينيا، لكن مكوثهم فيها لم يدم طويلًا، إذ انتقلوا عام 1997 إلى مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا، التي توصف بأنها عاصمة الصوماليين في الولايات المتحدة (يقطن بها حاليًا نحو 74 ألف صومالي الأصل، ما دفع ترامب إلى وصفها بالـ «كارثة»). دفعت الحاجة والد إلهان، نور عمر محمد، إلى العمل كقائد سيارة أجرة، ثم حصل في وقت لاحق على وظيفة في مكتب البريد.
عانت إلهان من العنصرية منذ بداية حياتها بأمريكا، فعندما كانت لاجئة تبلغ من العمر 12 عامًا تحاول التكيف مع الحياة في ضواحي فرجينيا، تعرضت لاعتداء من مجموعة من الفتيات اللواتي وضعن العلكة على وشاحها ودفعن بها من فوق الدرج. تقول إلهان:
منذ اليوم الأول الذي وصلنا فيه إلى أمريكا، استنتجت أنها ليست الأرض الذهبية التي وعدت بها. كانت أمريكا في مخيلتي، قبل قدومي، أرضًا حيث الحرية والعدالة فيها للجميع، حيث النجاح مضمون بغض النظر عن المكان الذي ولدت فيه وكيف تبدو ولمن تصلي.
وتضيف أن الواقع الذي رأته جعلها «غير مرتاحة لمثل هذا النفاق». تخرجت عمر من مدرسة إديسون الثانوية بمينيابوليس، بعد نحو أربع سنوات من وصولها إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وفي نفس التوقيت تقريبًا (عام 2000) أصبحت مواطنة أمريكية كاملة الحقوق. 
بدأ وعي إلهان يتفتح على السياسة عام 1997، عندما اصطحبها جدها إلى تجمع انتخابي للحزب الديمقراطي، لتترجم له ما يُقال. أبهرتها الأضواء والأحاديث السياسية وبدأت في الاستماع والتساؤل والتعلم، وكدليل على وعيها السياسي، قررت بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، ارتداء الحجاب، كإعلان مفتوح عن هويتها، كما تقول.

إلهان عمر في عالم السياسة

بدأت إلهان حياتها المهنية كمعلمة تغذية مجتمعية في جامعة مينيسوتا عام 2006 واستمرت في هذه الوظيفة حتى العام 2009. وإلى جانب ذلك التحقت بجامعة ولاية داكوتا الشمالية لدراسة العلوم السياسية والدراسات الدوليةوحصلت على درجة البكالوريوس عام 2011.
بعد إنهاء دراستها الجامعية، رأت إلهان أنها أصبحت مؤهلة لاقتحام عالم السياسة، فعملت مديرة لحملة إعادة انتخاب «كاري دزييدزيتش» لمجلس الشيوخ بولاية مينيسوتا لعام 2012. كان هذا أول احتكاك قوي لها بالعمل السياسي، ونجحت فيه بوصول كاري إلى مجلس شيوخ الولاية.
عملت عمر بين عامي 2012 – 2013 منسقة للتوعية بتغذية الأطفال في وزارة التعليم. وفي عام 2013، أدارت حملة المرشح أندرو جونسون لعضوية مجلس بلدية مدينة مينيابوليس. وبعد فوز الأخير، عملت مساعدة سياسية له لنحو عامين. وفي عام 2015، أصبحت إلهان مديرة السياسات والمبادرات الخاصة بشبكة تنظيم النساء، التي تعمل على إشراك وتمكين نساء شرق أفريقيا لأداء أدوار القيادة المدنية والسياسية في البلاد.
استطاعت عمر من خلال عملها في السياسة، والأنشطة الاجتماعية الكثيرة التي كانت تقوم بها، أن تخلق قاعدة شعبية لها سواء في أوساط الحزب الديمقراطي أو على المستوى المجتمعي. بفضل ذلك، استطاعت انتزاع بطاقة ترشيح حزبها على مقعد في مجلس نواب ولاية مينيسوتا عام 2016، وحققت مفاجأة بهزيمة المرشح الجمهوري المنافس، لتصبح أول مشرع أمريكي صومالي في الولايات المتحدة.
في الوقت الذي دخلت فيه إلهان إلى مجلس نواب مينيسوتا ممثلة للتنوع في المجتمع الأمريكي، كان دونالد ترامب يحلف اليمين كرئيس للولايات المتحدة ممثلًا لليمين المتطرف الرافض للآخر. سطع نجم إلهان سريعًا في إطار المعركة ضد ترامب، فهي امرأة مسلمة محجبة سوداء مهاجرة، ما يعني أنها الممثل المثالي لكل ما يكرهه ترامب ومعسكره.
ظهرت إلهان على غلاف مجلة تايم ضمن «النساء اللاتي يغيرن العالم»، كما تم استضافتها في برنامج «ذا ديلي شو» الشهير. وبفضل المناخ الاستقطابي في أمريكا ترامب، حصلت عمر على بطاقة ترشيح الحزب الديمقراطي للمنافسة على مقعد المقاطعة الخامسة بمينيسوتا في انتخابات مجلس النواب الأمريكي عام 2018، ودخلت التاريخ مجددًا عندما فازت بالمقعد وأصبحت «أول محجبة تدخل الكونجرس الأمريكي».
ورغم أن الفوز كان حدثًا كبيرًا، فإنه كان متوقعًا لعدة أسباب، منها أن مينيسوتا ولاية ديمقراطية مؤمنة بالقيم الليبرالية منذ عقود، وأغلب المناصب العليا فيها من نصيب الديمقراطيين، وبها خليط كبير من المهاجرين، فكما ذكرنا آنفًا يوجد بها ما لا يقل عن 74 ألفًا من أصول صومالية.
كما أن القضايا التي تدعمها إلهان لها شعبيتها، فالسيدة تطرح نفسها كصوت للمحرومين والمهاجرين في واشنطن، وتعمل على قضايا مثل الجوع وعدم المساواة في نظام قضاء الأحداث. يضاف إلى ذلك أن المناخ السياسي في الولايات المتحدة كان مهيئًا لوصول إلهان إلى الكونجرس بفضل الاستقطاب القائم.
لم يكن طريق إلهان السياسي مفروشًا بالورود، فمنذ بداية بزوغ نجمها سياسيًّا عام 2014، حينما كانت عضوًا في فريق أندرو جونسون، تلقت تهديدًا – وفق شهادتها هي وجونسون – من عبدي ورسام، الصومالي الأصل وعضو مجلس مدينة مينيابوليس، الذي خشى أن تحل إلهان محله يومًا ما وتقوض نفوذه في المجتمع الصومالي بالمدينة. وفي نفس العام تعرضت للضرب على يد 5 أشخاص، خلال تجمع انتخابي صاخب.
وبعد نجاحها في الحصول على بطاقة ترشح الحزب الديمقراطي لمقعد مجلس نواب ولاية مينيسوتا اتهم مدونون يمينيون إلهان بأنها  متزوجة من رجلين في وقت واحد، أحدهما «شقيقها أحمد نور سعيد علمي». تلقفت وسائل الإعلام المحافظة الشائعة وروجت لها، رغم عدم وجود أدلة على الاتهامات ونفي عمر واستنكارها وتأكيدها أن علمي ليس شقيقها، وأنهما تزوجا عام 2009 لفترة وجيزة، ثم انفصلا، وهي متزوجة بشكل غير رسمي من أحمد حارسي منذ العام 2011  (تزوجا رسميًّا عام 2018) ولها منه ثلاثة أبناء.
كما اتهمت إلهان، بعد فوزها بعضوية المجلس التشريعي في ولايتها، بانتهاك قوانين تمويل الحملات. وانتُقدت وهوجمت، خلال حملتها الانتخابية للوصول إلى «الكابيتول هيل»، بسبب انتقاداتها لإسرائيل ودعمها لحركة المقاطعة وفرض عقوبات على تل أبيب من أجل تحسين معاملة الفلسطينيين.

إلهان في قفص الاتهام

فازت عمر بمقعد في الكونجرس وفرح الجميع وهللوا، آملين أن تقدم أداءً جيدًا وأن تساهم في عرض القضايا التي انتُخِبت لتمثيلها، لكن الأمر لم يكن سهلًا على الإطلاق، فهناك أيادٍ كانت تعمل في الخفاء على وأد تجربتها.
البداية كانت قبل حتى أن تتولى منصبها بشكل رسمي، ومن بني جلدتها ودينها. إذ وجه الإعلام الخليجي سهام انتقاده إلى إلهان باعتبارها جزءًا من تحالف غير معلن بين الحزب الديقراطي والجماعات الإسلامية للسيطرة على الكونجرس، وانتقد الميول السياسية لها ومعاداتها لترامب ولسياساته الخارجية.
اختارت إلهان الانضمام إلى لجنتي الشئون الخارجية والتعليم والعمل في مجلس النواب، من أجل تمثيل من دعموها، لكن انضمامها إلى لجنة الشئون الخارجية، وهي المعروفة بانتقاد إسرائيل، دفع اللوبي المؤيد لتل أبيب إلى مهاجمتها.فمنذ الأسبوع الأول لها في المجلس، واجهت انتقادات حادة من النواب الجمهوريين بسبب مواقفها السابقة من إسرائيل ودعمها لحركة المقاطعة BDS، واتُّهمت – مع زميلتها المسلمة الفلسطينية الأصل رشيدة طليب – بمعاداة السامية والتعصب.
اضطرت إلهان إلى الاعتذار، في شهرها الأول بالكونجرس، عن تغريدة كتبتها عام 2012، قالت فيها: «إسرائيل قامت بتنويم العالم، فليوقظ الله الناس وليساعدهم على رؤية أفعال إسرائيل الشريرة»، وأكدت أنها لم تكن تقصد أن تقول كلامًا معاديًا للسامية.
ومع استمرار الهجوم عليها قالت إلهان، الشهر الماضي، إن أعضاءً في الكونجرس يدعمون إسرائيل لأنها تقدم تمويلات لحملاتهم عبر لوبياتها لا سيما الـ «آيباك»، معتبرة أن هذا ولاء مزدوج، ما دفع قادة حزبها إلى انتقادها علانية ومطالبتها بالاعتذار عن استخدام «مصطلحات معادية للسامية» في تغريدتها. اضطرت إلهان إلى الاعتذار مرة أخرى، لكنها حذرت في الوقت نفسه من الدور الإشكالي الذي تلعبه جماعات الضغط في سياسة الولايات المتحدة.
اعتذار عمر لم يكن كافيًا للبعض، وعلى رأسهم الرئيس ترامب، الذي طالبها بالاستقالة، قائلًا: «لا يوجد مكان لمعاداة السامية في كونجرس الولايات المتحدة الأمريكية»، لافتًا إلى أن ما قالته «فظيع.. وأعتقد أن عليها الاستقالة إما من الكونجرس أو لجنة العلاقات الدولية التابعة لمجلس النواب».
على مدى شهر كامل استمر الهجوم على إلهان، وكان آخرها الأربعاء الماضي، عندما كتب ترامب على «تويتر»: «عار على الديمقراطيين في مجلس النواب ألا يتخذوا موقفًا أكثر حزمًا ضد معاداة السامية. معاداة السامية أدت إلى ارتكاب فظائع على امتداد التاريخ ومن غير المقبول ألا يتحركوا لإدانتها»
وطرح الجمهوريون في مجلس النواب مشروع قرار لإدانة إلهان عمر بتهمة معاداة السامية، وفي المقابل أصر الديمقراطيون على أن أي قرار يخرج يجب أن يدين جميع أنواع التعصب، لأن إلهان «استُهدفت بشكل غير عادل»، وفي النهاية أصدر الكونجرس بأغلبية ساحقة قرارًا أدان فيه معاداة السامية والتعصب والإسلاموفوبيا والكراهية بكل أشكالها رافضًا الإشارة إلى إلهان في نص قراره. 
الحملة الشرسة التي يقودها اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة (وربما لدول خليجية دور فيها) ضد إلهان، متعددة الأبعاد. فهي من ناحية، تهدف إلى اغتيال عمر سياسيًّا وإخراجها بشكل مذل من لجنة الشئون الخارجية، حتى لا يبقى في اللجنة صوت يعارض الجرائم الإسرائيلية (وربما الأنظمة العربية الديكتاتورية أيضًا). ومن ناحية أخرى، هي معركة بين الحرس القديم في الكونجرس والنواب الجدد، يحاول فيها الحرس القديم فرض تابوهاته وخطوطه الحمراء على النواب الشباب الجدد ذوي الخطاب اليساري والمتحررين من النفوذ الصهيوني.
وكذلك الحملة محاولة من الجمهوريين لسحب دعم اللوبي الصهيوني للحزب الديمقراطي، عبر «وصم» كامل الحزب بمعاداة السامية، وهو ما بدا واضحًا من تصريحات ترامب، والتي كان آخرها عقب موافقة الكونجرس على قرار يدين معاداة السامية والتعصب والإسلاموفوبيا، إذ قال: «الديمقراطيون أصبحوا حزبًا معاديًا لإسرائيل، حزبا معاديًا لليهود، وهذا أمر مؤسف للغاية».
وإدراكًا لأبعاد هذه الأزمة زار وفد من اليهود المناهضين للصهيونية النائبة إلهان عمر، دعمًا لها. كما قام عدد من الديمقراطيين البارزين، بينهم: بيرني ساندرز وكمالا هاريس وإليزابيث وورين، بالدفاع عن إلهان عمر. 

فعلى سبيل المثال قال ساندرز إنه «يجب أن نفرق بين معاداة السامية وانتقاد الحكومة اليمينية التي يرأسها بنيامين نتنياهيو في إسرائيل. كما يتوجب علينا تطوير سياسة متوازنة في الشرق الأوسط، تجمع الإسرائيليين والفلسطينيين لتحقيق سلام دائم. ما أخشاه في مجلس النواب هو استهداف النائبة عمر كوسيلة لإفساد النقاش. وهذا شيء خاطئ».
من المبكر حاليًا الحكم على نتيجة الهجمة الشرسة على مستقبل إلهان السياسي، لكن ما يمكننا الجزم به أنها لو تجاوزت هذه الأزمة فسيكون لها دور كبير خلال المرحلة المقبلة. ومن جانب عمر، فهي تحاول أن تبدو متماسكة وتمارس عملها بشكل معتاد، ظهر هذا واضحًا من خلال الهجوم الذي شنته، في ذروة الأزمة، على مبعوث ترامب إلى فنزويلا، وسياسة الولايات المتحدة تجاه الأزمة الدائرة هناك.

بقلم : كريم أسعد
Next Post Previous Post