البخور التقليدي في الصومال: عطر للجميع ورزق للنساء



في بيت متهالك غرب العاصمة مقديشو تستوقفك رائحة زكية تجبر المارة بجوار منزل السيدة مدينة حاج مجبرة على الالتفاف ولو قليلًا تجاه المنزل، لتتبع طيب البخور التقليدي، الذي لا تخلو من روائحه منازل الصوماليين، رغم غزو العطور المستوردة.

على مر العصور، امتزج البخور التقليدي بحياة الصوماليين اليومية، وارتبط اسم الصومال بـ”بلاد الطيب” أو “بلاد بونت” كما أطلق عليه قدماء المصريين، الذين كانوا يجلبون البخور من منطقة “بونتلاند” شمال شرقي الصومال، لاستخدامه في أغراض عديدة، من أبرزها تعطير معابدهم.

وتعتبر صناعة البخور التقليدي في الصومال عملا نسائيا بامتياز، فالمرأة هي من تحضر وتصنع وتعرف أسرار المكونات، ما جعل المهنة حكرًا عليهن مند زمن بعيد.

السر في الحرفية


مع إشراقة كل صباح تستقبل مدينة من زبائنها طلبات بخور تقليدي بأنواع مختلفة، وتنهمك بتقسيم الأدوار بين بناتها، لتنفيذ أكبر عدد ممكن من الطلبات، بواسطة أدوات تقليدية تنتج أنواعًا مميزة من البخور.

ضجيج الأواني، التي تحتوي المواد الخام لصناعة البخور، ينتشر في ساحة منزل مدينة، وهي تعمل في هذه المهنة منذ أكثر من ثلاثة عقود، وتعيل منها أسرتها في ظل ظروف معيشية صعبة تعاني منها الصوماليات.

وهي تمزج المواد المعطرة بحذر، قالت إن “هذه المهنة كانت ولا تزال مصدر رزقي الأول مند أن ورثتها قبل عقود عن عمتي، ورغم تطورها وتعدد أصنافها الخام، إلا أنها تشكل سر حياة أسرتي وضمان لقمة عيشها”.

وتابعت: “بغض النظر عن سهولة صناعتها بالنسبة للمشاهد، إلا أن خلط المواد الخام يتطلب حذرًا وحرفية وإتقانًا ومعرفة بمكونات ونسب كل منها، حيث يتم مزج حطب العود وترب المسك واللين والعنبر والجابي والظفر بجانب أنواع مختلفة من العطر”.

تمر صناعة البخور بمراحل عديدة، تبدأ بإشعال نار هادئة ووضع قدر مع الماء وكمية من السكر، حسب الحاجة.

يُنتظر حتى غليان الماء، ليوضع مسحوق مختلط مكون من حطب العود وتراب المسك واللين والعنبر وجابي والظفر المستخرج من البحر وأنواع مختلفة من العطر، لتتحول إلى مادة صلبة تفوح منها رائحة زكية، معلنة اكتمال مرحلة تصنيع البخور على شكل جسم مربع صلب كبير.

وفي مرحلة تقطيع مادة البخور يأتي دور أفراد الأسرة، وخاصة الفتيات، حيث يتم تقطيع البخور حسب مقياس على شكل مربعات ومثلثات، لتتم تعبئته في أكياس بلاستيكية، ومن ثم بيعه في الأسواق والمنازل.

صناعة متوارثة

لا تعد مشاركة أفراد العائلة في صناعة البخور مجرد مساعدة لتذليل مراحل التصنيع، بل وسيلة لتوريث الفتيات تلك المهنة، حفاظًا على ثقافة الأجداد داخل الأسرة، التي تعتمد عليها كمصدر رزق لها.

يومًا بعد آخر على مدار سنوات، تكتسب فاطمة محمد، الابنة الصغرى في عائلة مدينة، معرفة بأصناف وطرق جديدة في صناع البخور، مع تطور الحياة.

وقالت فاطمة: “أمي كانت تلعب دورًا كبيرًا في توريث هذه المهنة لعائلتنا، حيث تمتهن معظم أخواتي المهنة حتى بعد زواجهن، حيث يرتزقن منها لسد بعض احتياجاتهن”.

وأضافت: “تقدم عمر أمي، وعلي أن أقدم لزبائنها كل ما يحتاجون إليه.. أقدم لهم شيئًا مميزًا على غرار أمي، التي تحظى باحترام كبير في هذه الصناعة التقليدية”.

وثمة أسر عديدة تمتهن صناعة البخور التقليدي في الصومال، والتي غالبًا ما تتم في المنازل، لكن نوعية البخور والمواد التي تدخل في صناعته تصنع الفارق بين تلك الأسر لجذب الزبائن.

استخدامات متعددة

البخور التقليدي هو أحد أهم المستلزمات الأساسية في جميع مناحي الحياة الأسرية في الصومال، بداء من الاحتياجات الشخصية، وصولًا إلى المناسبات، ولا تخلو منه المنازل، حيث يتم تطييبها به، خاصة في الليل.

مريمة حسن، تفضل البخور التقليدي، قالت إن “ثقافة استخدام البخور التقليدي لا تزال منتشرة بين الأسر الصومالية، التي تتوارثها جيلًا بعد آخر، وهو ما ساهم في تشبث الأسر بالبخور التقليدي، رغم كثرة المستورد”.

وأضافت أن “البخور التقليدي له استخدامات متعددة، فمنه ما يستخدم في المنازل والمناسبات، كالأعراس والولائم، بجانب تطييب الملابس، وخاصة النسائية، ولكل قسم نوعه الخاص من البخور، الذي يختلف حسب المواد الخام والكمية المخصصة له”.

وتختلف استخدامات البخور حسب التوقيت، إذ يُستخدم في الفترة المسائية لتعطير المنازل، عبر مبخرة مجمرة توضع في إحدى زوايا المنزل أو خلف الستائر.

وتُعطر الملابس من خلال حشو مكعبات من البخور داخل حقائب الملابس وإبقائها لمدة معينة، وتستخدم في المناسبات أبخرة مجمرة لتعطير الأجواء، كمظهر من مظاهر الترحيب بالضيوف.

التقليدي والمستورد

وقالت عائشة نور، تاجرة بخور، إن “البخور التقليدي يتحدى العطور المستوردة من الخارج، حيث يعد منافسًا قويًا رغم تنوع العطور الحديثة التي تجتاح الأسواق والمنازل”.

وأرجعت صمود البخور التقليدي أمام المستورد إلى “كونه يشكل ثقافة متجذرة عبر القرون تتوارثها الأجيال، بجانب جودته الخارقة، حيث لا تتم صناعته بهدف الربح فقط، وإنما لكونه ثقافة تنفث روائح زكية على حياة الصوماليين”.

وحسب مختصات في صناعة البخور فإنه يتميز بجودته، حيث لا تفارق رائحته المنازل والملابس نحو ثلاثة أو أربعة أيام، ولا يتسبب بحساسية لمستخدميه، بينما لا تصمد رائحة العطور والبخور المستوردة سوى ساعات أو على الأكثر يومًا، بجانب الحساسية التي تتسببها أثناء رشها في المنازل أو على الجسم.

وحسب النوع والمكونات والكمية، تتراوح أسعار البخور التقليدي في الأسواق الصومالية بين 220 ألف شلن صومالي (10 دولارات) و110 ألف شلن (5 دولارات) أو أقل.

(الأناضول)
Next Post Previous Post