مقال: مغربي في مقديشو مولعٌ باقتناص اللحظة



إننا نقترب من ملامسة التاريخ ومصافحة الوجدان، لا بُدّ من التقاط شهيق وزفير يناسب هذا الموعد العاطفيّ، شهقة عربية إفريقية على وشك الحدوث، تختلط المشاعر وترتجف الشفاه وتصعد إلى محاجر العيون دمعات، لا أعلم حقا اسم المساحة الضيقة العازلة بين انتهاء انتظار طويل وبداية لقاء شاعريّ، إنها مساحة تجعلك تفقد نصف وعيك، خيْطٌ رفيعٌ يَفْصل الحلم عن الواقع، ودمعة تنساب نيابة عن كل مغتربٍ، لقد تجسدَتْ عندي أحاسيس العودة فصرتُ ذلك الطفل اللاهث خلف أمه.

إطلالة عبر النافذة، ها هي مقديشو لؤلؤة المحيط الهندي تظهر في حلة فاتنة، ترفل في ثوب من النعيم، وعلى مستوى النظر نشاهد مطار آدم عبد الله يخالط بياض الشاطئ وزرقة البحر، وبمحاذاته مسجد بدا كأنه تاج هذا العرش البهيّ.

هبطت الطائرة بسلامٍ، وتسارعتْ نبضات القلب، ورقصتْ على الشفاه بسمات البهجة، وعَلَتْ مُحيّانا كل انتصارات الكون ونجاحات الحياة، إنك تدلف إلى هذه المدينة بألف طاقة، تجذبك إليها كل معاني الحيوية… ناولتُ جوازي شرطي المطار فتأمله، وقال:

?Are you a Moroccan

– نعم سيدي

ختمه مبتسما: Welcome to Somalia

دخلتُ المدينة برجلي اليمنى .. ولَفَحَنِي نسيمٌ باردٌ .. ثم أديتُ التحية:

– السلامُ عليكِ يا مقديشو.



الصومال مدينة أشباح!

وللصومال عندي ألف حكايةٍ، وألف تصورٍ، وألف انطباع بدْءاً من قراءة رحلة المغربي ابن بطوطة الذي زار مقديشو وكتب عنها، وليس انتهاء بنشرات الأخبار عن الصومال. ولطالما تساءلت، لماذا عانى الصومال كل هذه المعاناة في الحرب الأهلية؟ ما ذنب شعبه؟ تقابل الصوماليين في كل أنحاء الدنيا فتجدهم مسالمين، تفيض منهم الطيبة والعفة والكرامة وحسن المعشر، لا يقابلونك بما تكره، وأقصى ما يتمنونه ألا تذكر بلدهم بسوء، وإن وجدوا وقتا إضافيا شرحوا لك بعض الخفايا والكواليس، وإن تعمقت في الموضوع لمحتَ في وجوههم الشوق للوطن وتمنيات العودة وأحلام الرجوع، وجوههم ترسم لك دروب العاطفة تجاه الصومال، لا شيء يفوق الوجدانية عندهم مثل التعلق برايةٍ زرقاء، تتوسطها نجمة خماسية بيضاء، الدموع هي الصومال، والفرح هو الصومال، الرقص والانفعال والتباهي والفخر والخشوع والخضوع كلها طقوس محتكرة للصومال..

إنك حين تشاهد القنوات وهي تتحدث عن الصومال فلا محالة أن ترتسم في ذهنك كل أنواع الرعب وأشكال الخوف، فتخال الصومال مدينة أشباح، لذلك يُسقط المحللون مصطلح (الصّوْمَلة) على كل دولة فاشلة، أبَعْدَ كلّ هذا يوجد عاقلٌ يود السفر إلى الصومال؟

ومهما اختلفنا حول ماهية العاقل وتعريفه، فلقد جئتُ مقديشو مترعا بمشاعر كل الصوماليين المغتربين، وجئتها رجلا غريبا فاضت به السؤلات لمعرفة هذا البلد واكتشافه بعيدا عن زوايا الإعلام وكاميرات المراسلين.

وجبة العنبولو الصومالية تواجه هجمة مرتدة

وقد وجدتُ مقديشو مدينة غير متوقعة، تنام بعد صلاة العشاء؛ لكنها مدينة صاخبة في المنازل والقصور والفنادق، تكثر فيها حفلات عيد الميلاد وعيد الزواج والخطوبة والتخرج والحب وسابع المولود، والشباب الصومالي مولع بهذه الحفلات فهم يحتفلون لكل مناسبة. وقد دُعيت مرة إلى حفلة أقامها شباب وشابات في بهو فندق، والمناسبة هي توديع زميلهم في الدراسة الذي سيسافر إلى أوربا، وكانت الحفلة في قمة الأنس والسرور، إذ بدأت الحفلة بفقرة موسيقية كاملة أحيتها فنانة صومالية، ورغم أني لم أفهم ما تقول إلا أنها أطربتني بصوتها، ولامست بأحاسيسها شغاف القلب، واخْتُتمت الحفلة بعشاء فاخر.

ومقديشو سريعة النمو التجاري، كل يوم تسمع عن افتتاح مشروع تجاري ضخم في مجال معين وبعد يومين تسمع بافتتاح مشروع تجاري في نفس المجال يكون أضخم من الأول، فالمقديشيون يتنافسون في التجارة والمال ويتطاولون في البنيان ويتسابقون إلى قمم الاقتصاد، ومن عجائب الدنيا في الصومال أنّ دخل الأفراد أعلى من دخل الدولة.

وإنك لن تسأل عن وجبة من وجبات الدنيا إلا وجدتها في مقديشو، السوشي الصيني وبلح الشام السوري والكشري المصري والطاكوس المكسيكي والمندي اليمني، بل إني وجدت وجبة (الأتشيكي) الإفوارية في مطعم صغير فتناولتها استذكارا لأيام لنا خلت في أبيدجان. أما الكسكس المغربي فموجود كل يوم أحد في بوفيه مفتوح بأحد فنادق العاصمة. وقد غزت الوجبات السريعة الأمريكية كل أنحاء مقديشو حتى ليقول قائل أخشى أن ينقرض (العنبولو) وسط هذه الهجمة المرتدة، والقوم يتناولون السمبوسك (السمبوسة) طيلة العام ولا يربطونها بموسم رمضان حالهم في ذلك كحال أهل مكة المكرمة.

حمرججب .. امتداد العبق الشعبي نحو قباء وخان الخليلي

ومقديشو الحديثة قد بنيت على طراز إيطالي بداية القرن الماضي، ثم توسعت في الخمسينات والستينات وشملها الطراز السوفييتي الْمُطَعّم باللمسات الآسيوية، ثم صارت تحوي طرازات عديدة في البنيان والعمارة والتشييد، فصرتَ تجد في كل زاوية نظاما عمرانيا يختلف عن بقية زوايا المدينة، كما أنّ أطراف المدينة منبسطة ووسطها أقل انبساطا. فحي دار السلام حي حديث جديد فخم مبني على الطراز الأوربي ويسكنه الأثرياء ومتوسطو الدخل، وغالبيتهم من الصوماليين العائدين من أوربا.

الصوماليون رجالا ونساء يستاكون كل صباح بعود السواك، فهم حريصون على نظافة الفم والأسنان بالطريقة النبوية.

أما حيّ حمرججب فهو حي عتيق كثير الدروب والأزقة، يمتاز بالبساطة وجمال الروح الشعبية، يشبه خان الخليلي في القاهرة أو حيّ قباء في المدينة المنورة. تجد في بيوت الحيّ النمط الإندونيسي في تثليث السقف، ولو نظرتَ إلى حمرججب من عالٍ لتراءت لك تشكيلة من الألوان الساحرة، فذاك بيت مطليّ بالخُضْرة وهذه دار مُطَعَّمَةٌ بألوان البنفسج، وتلك واجهة مزركشة بالزرقة واللون السماوي، وبمحاذاة حيّ حمرحججب تجد حيّ حمرويني التاريخي ومسجده العتيق الذي بُنِيَ أوائل القرون الهجرية، وتسكن حيّ حمرحججب قبائل (رير حمر)، وهي أُسَرٌ هاجرت قبل قرنٍ أو أزْيَد إلى الصومال قادمة من العراق وكردستان وفلسطين وعمان واليمن والمغرب العربي.

أمّا المساجد فتتباين أنماط بناياتها وتصميماتها، فأحيانا تجد النَّفَسَ المغربي في النقوش والزخرفة على جدران المساجد، وأحياناً تجد النظام التركي في بناء المنارات والقبب، وهذا خاص بالجوامع الكبيرة، وقد تُصَادِفُ مسجداً تتأمل بنايته فتجدها امتداداً للثقافة الهندية وتاج محلّ وليس ذاك غريبا، فالهنود مستوطنون في السواحل الإفريقية على المحيط الهندي، وأحيانا تُصَلِّي في مسجدٍ صغيرٍ مليءٍ بالروحانية والسكينة، خال من التصاميم والأنماط، بُنِيَ قبل قرنين من الزمان، يشبه كثيراً مساجد نَجْد أو مساجد الطوارق في مالي والنيجر.

والصوماليون رجالا ونساء يستاكون كل صباح بعود السواك، فهم حريصون على نظافة الفم والأسنان بالطريقة النبوية.

عروبة الصومال وسؤال الهوية

اللغة الصومالية كالنغم المنساب الممزوج بالرحيق، تكثر فيها حروف الحاء والقاف، فلا يتحدث إليك صوماليّ إلا ظننته يشدو بصوت رخيم، فكلامهم ذو طلاوة، وكأنّ حناجرهم قد انسكب فيها عسلٌ، والقوم على قدرٍ عالٍ من التهذيبِ والأدبِ، يجيدون ثقافة الاستماع للغريب، ولا يقاطعونه حتى لو اختلفوا معه!

ولن أخوض هنا في الجدلية الدائرة حول عروبة الصومال من عدمها، فالحديث عنها يطول وذو شعاب كثيرة ومحاور عديدة؛ بل إنّ هناك مدرسةٌ فكريةٌ عند بعض الصوماليين تقول: إنّ الصومال من حيث الهوية ليس عربيا ولا إفريقيا ولا آسيويا، فالصومال هو الصومال بحضارته الصومالية، وإرثه الصومالي وتاريخه الصومالي ولغته الصومالية، ولا يشمل ذلك الصومال الحالي بل يمتد ليشمل جيبوتي وإقليم غرب إثيوبيا وإقليم غرب كينيا ويُطلق على ذلك كله (الصومال الكبير).

والصومال كأيّ بلدٍ ساحليٍّ تأثر بالهجرات العربية والإفريقية والآسيوية، فاستقرت فيه القبائل العربية والإفريقية ومجموعات آسيوية، وهذا جليّ في ألوان الصوماليين، فإنك تجد فيهم الأسمر والأحمر والأبيض والقمحي، وكل هؤلاء من مختلف القبائل والمجموعات الصومالية.

ومهما تباينت الآراء حول هوية الصومال، فالصوماليون لا تجتمع كلمتهم إلا على شيء واحد فقط: الإسلام. ما خلا ذلك فتنقسم آراؤهم وتتعدد.

السبب الأمهات!

أما أطفال الصوماليين فيجمعون بين الدراستين النظامية والتقليدية (الدينية)، ففي كل مسجدٍ يوجد مركز للكُتَّاب يقوم عليه مُدرسٌ يُعَلّمُ الأطفالَ القرآن والتفسير والعقيدة واللغة العربية، وهذا المركز يلتحق به الطلاب مساءً بعد انقضاء دراستهم النظامية. وأذكر هنا طرفةً وقعتْ لي مع طفلٍ صوماليّ وقفتُ عليه يجلس في ركنٍ قَصِيٍّ في أحد المساجد، كان هذا الطفل أبيضَ اللمحات جميل القسمات، ينظر إليّ بعيونٍ تتوقُ إلى معرفة من أكون، ناديته فأتاني مسرعاً، سلمتُ عليه وسألته كم تحفظ من القرآن؟ فأجابني بلغة عربية فصيحة: أحفظ خمسة عشر جزءاً من كتاب الله.

ثم سألني: لماذا أنت أبيض؟ فتعجبتُ من سؤاله وطفقت أبحث عن مقاصده غير أني أجبت على ظاهر السؤال فقلتُ: هذا خَلْقُ الله. قاطعني الطفل قائلا: فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين.

قالها مبتسما يريد أن يثبت لي سرعة بديهته في حفظ القرآن، فبادرته ذات السؤال: ولماذا أنت أبيض؟ فقال: السبب الأمهات. يريد أن يقول إنّ سبب اكتسابه هذا اللون كونُ أمه بيضاء.

مزج الموز مع الأرز والباستا

والقوم تربطهم علاقة أيدلوجية بالإبل، يرعونها ويحوطونها بكل العناية والحنان، ومن إكرام الضيف عندهم تقديم حليب الناقة ولحم الإبل، ولم أجد عندهم ثقافة الشواء فاللحم عندهم يطبخ ولا يشوى. ويقدم اللحم مع الأرز وتَحُفُّه حلقاتُ البَصَل المقليّ وسلطة الخضار وصوص البسباس. ويقدم اللحم أيضا مطبوخا مع المرق والإيدام الممزوج بالبطاطس والجزر والفلفل البارد، ويؤكل مع (اللحوح) وهو خبز طري دائري الشكل.

إنّ الصوماليّ كريم بطبعه، شَهْم بأخلاقه، بشوش بأسلوبه، طريف وكوميدي وقت السمر واللهو، جاف وشديد وقت الجد والعمل، يكره التكبر والتعجرف، ويخفض الجناح للمسكين والضعيف، ويؤثر الغريب على نفسه؛ لكنه لا ينسى الإساءة -مثل الجمل- فذاكرته قوية تحفظ الودّ وتصون العهْد كما تحفظ الإساءة والنكير.

ومن أعجب ما رأيت عندهم، أكل الموز مع الباستا والأرز، وكنت بادئ الأمر لا أستسيغ الفكرة لكنني مع الوقت اكتشفت حلاوة هذا الاختراع، فخلط الموز في لقمة واحدة مع الأرز يجعل حواس الاستشعار في الفم تتذوق الحلاوة والملوحة في آنٍ، وهو طعم لو تعلمون لذيذ!

إنّ الصوماليّ كريم بطبعه، شَهْم بأخلاقه، بشوش بأسلوبه، طريف وكوميدي وقت السمر واللهو، جاف وشديد وقت الجد والعمل، يكره التكبر والتعجرف، ويخفض الجناح للمسكين والضعيف، ويؤثر الغريب على نفسه؛ لكنه لا ينسى الإساءة -مثل الجمل- فذاكرته قوية تحفظ الودّ وتصون العهْد كما تحفظ الإساءة والنكير.

قد يقتلك الصومالي لهذا السبب

وقد جمع الله لنساء الصومال فتنة الملامح الإفريقية وعذوبة الجمال العربي وسِحْرَ الجاذبية الآسيوية، فالصومال بلد إفريقيّ عربيّ مُطِلّ على المحيط الهندي، فانعكس هذا التقارب والتداخل العربي الإفريقي الآسيوي على جمال الصوماليات. فالمرأة الصومالية معجونة من عدة حضارات وكأنها مزيج من تشكيلات الزهور والفراشات وألوان الطيف؛ لذا بلغْنَ منتهى الكمال الأنثوي في الأجساد والخصور وتقاسيم الوجه، وكلهن على هذه الحال سواء كن بيضاوات أو سمراوات أو حمراوات، وانتبه .. فالصومالي يغار على الأعراض والمحارم، وقد يقتلك في سبيل الدفاع عن الشرف؛ لذا عليك امتثالَ الآية الكريمة “وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم”.

والمرأة الصومالية تملك شخصية قوية وحادة إن لزم الأمر، تجيد الدفاع عن نفسها، وقد تواجه أعتى الرجال وأشرسهم بلسانها وعنفوانها.

المغرب والصومال

الصوماليون بشتى انتماءاتهم الفكرية والقبلية والسياسية يحترمون المغرب ملكا وشعبا، ويؤيدون وحدتَه الترابية ويساندونه في كل الأزمات، وآخرها أزمة الكركارات؛ إذْ أعلنت الحكومة الصومالية تأييدها لقرار المغرب إنهاء الفوضى التي سببتها جبهة البوليساريو الانفصالية. ويأمل الصوماليون أن يفتح المغرب سفارته في مقديشو حتى يتمكنوا من زيارة المغرب للسياحة، والإقامة فيه لطلب العلم والاستثمار.

ومن أسباب احترام الصوماليين للمغرب وحبهم له، أنّ المغرب لم يتدخل قط -سلبا- في شؤون الصومال ولم يدعم مليشيا معينة في الحرب الأهلية، ولم يتورط في تمويل أعمال الإرهاب والفوضى ضدّ الشعب الصوماليّ. لقد ظل المغرب طيلة أزمات الصومال مساندا لوحدة الشعب الصومالي وأمانه واستقراره، ولا ينسى الصوماليون الخدمات الجليلة التي قدمها المستشفى المغربي الميداني بمقديشو في التسعينات أيام -المغفور له بإذن الله- الملك الحسن الثاني.

العرب هم من دمّر الصومال

نقاط التفتيش في مقديشو كعدد شعرات الرأس، ففي كلّ زاوية ومدخلٍ وبوابةٍ وفي كل طريق وشارع وسوق وفندق تجد نقاط التفتيش الأمنية، فعند كل موضع مجموعة من رجال الجيش يحفظون الأمن ويحرسون الحِمَى، وغالبية العساكر أشخاص لطفاء مع الغريب الأجنبي، لا يتعنصرون ضده ولا يُعاملونه بعنف وعنجهية، وغاية ما يطلبونه تفتيش أغراضه ثم يتركونه يمضي بسلام.

والمرة الوحيدة التي ضايقني فيها عسكري كانت عند مدخل حيّ خاص مُغْلق، جئته إجابة لدعوة عشاء قدمها لي صديق صوماليّ، أوقفني العسكري وتحدث معي بالإنجليزية فاعتذرت له، فأنا لا أجيد غير العربية وأعرف بعض الفرنسية. فتبدلت ملامحه من الرحابة إلى العبوس، وراح يتكلم بالصومالية وبدا من حديثه أنه ينتقد العرب ويلمز بلدانهم، فقلت له إنني لم أفهم ما يقول، فقال بلغة عربية حادة: العرب هم الذين دمروا الصومال!

فجادلته بلطف في هذه المسألة وبينت له أن تحميل العرب وزر كل المشاكل التي وقعت في الصومال هو أمر مجانب للصواب ولا يقوله إلا شخص كسول يهرب من نقد الذات وتقييم النفس إلى لوم الآخرين واتهامهم، والحق أن تدمير الصومال في التسعينات وسقوط الدولة المركزية يتحمل وزره النظام العسكري الذي أتى بانقلاب 69. وقد دمرت سياسات ذلك النظام العسكري الجيشَ الصومالي العظيم وحولته إلى ميليشيات قبلية متناحرة.

ومن الإنصاف القول بأن الراحل سياد بري رحمه الله كانت له إيجابيات وإنجازات وحسنات كثيرة في البنى التحتية والتعليم والصحة والاقتصاد، لكن قراره بدفع كامل الجيش لاستعادة الصومال الإثيوبي لم يكن قرارا موفقا، لذا تمكنت إثيوبيا وبدعم من الاتحاد السوفييتي وكوبا ومحور الدول الشيوعية في القضاء على الجيش الصومالي الذي كان آنذاك من أقوى الجيوش الإفريقية. ولاحقا في التسعينات عندما سقطت الدولة المركزية موّل نظام القذافي المليشيات المتقاتلة، وكذلك فعل نظام علي عبد الله صالح لتستمر بعد ذلك التدخلات السافرة في الشأن الصومالي، تارة من بعض الأنظمة العربية وأخرى من بعض الأنظمة الإفريقية وثالثة من قوى عالمية.

ولا أدري هل اقتنع العسكري بردي هذا؛ لكنه تفاجأ وقال مبتسما: أنت تعرف تاريخ الصومال جيدا.
وقد كشف لي هذا العسكري عن خُلقه العظيم فاعتذر لي عن شدته في الكلام معي وبرّرَ لي سبب انفعاله بأنه سئم تدخل الدول في وطنه وأنّ الشعب ملّ الحرب والفوضى.

هذا الموقف دفعني إلى قناعة فحواها أنّ الصوماليين هم أكثر الناس طيبة وسماحة وتجردا ورجوعا إلى الحق وقبولاً للآخر، وهي -والله- صفات القديسين والحواريين والعظماء.

القات والتعليم الأكاديمي في الصومال

وقد وجدت الصوماليين يحترمون المزاج ويقدرون الكيف، فهم يشربون القهوة والشاي صباحاً وعصراً، والقهوة عندهم هي القهوة العربية التي نعرفها غير أنها خفيفة وغير مركزة. أمّا الشاي فقد أبدع الصوماليون في طبخ تركيبته العجيبة، إنه شاي مُرَكّز قويّ يلامس وجدانك ويرتقي بكيفك، فهو من أجمل المذاقات في الصومال، وإن جمعت معه الحلوى الصومالية فكأنما حيزَتْ لك الدنيا، ولا يحلو السمر عندهم إلا بجلسة ليلية طويلة، يتم فيها تخزين القات، فالقوم مهووسون بالقات كاليمنيين والسواحليين، ولا يجدون غضاضة في تقديم القات للغريب من باب الضيافة وقلما تجد رجلا صوماليا لا يُخَزِّن.

وهوس الصوماليين بالقات يقابله هوسهم بالتعليم الأكاديمي، ففي مقديشو وحدها أزْيَد من مئة جامعة عدا المعاهد والمراكز العلمية والجامعات التي توجد في الأقاليم الأخرى كبونتلاند وجوبالاند، ولو جمعت كل الجامعات والكليات في الصومال لجاوزت المئتين. ومن أكبر الأدوار التي اضطلعت بها القبيلة في الصومال هي التكفل المادي بمنح الطلاب وابتعاثهم إلى الخارج للتعليم والدراسة، فلا غرابة أن نجد الصوماليين يشكلون نسبا كبيرة في الكفاءات العلمية العالمية المهاجرة.

أما المناخ في مقديشو فتغلب عليه البرودة واعتدال الجو طيلة العام عدا شهري مارس وإبريل فهما أكثر شهور السنة حرارة ورطوبة.

أشرب الشاي بتؤدة ثم ألعن المرتزقة

إنّ ‏جُلّ التقارير الصحفية عن الصومال تتبع أسلوب غوبلز في الدعاية الكاذبة واختلاق الأحداث وتضخيمها، ومن أمثلة ذلك ما وقع بعد قدومي إلى مقديشو، فقد قامت الصحفيَّة الأمريكية أماندا سبيبر بزيارة إلى مقديشو، ‏وقد صورتْ بنفسها فيديو لشوارع مقديشو وكانت حركة المرور في منتهى الانسيابية وظهرت في الفيديو عمارات وأبراج ومطاعم شارع دبكا وما حوله، وفي الفيديو كانت تنبثق موسيقى من الخلفية، لقد نشرت هذا الفيديو على حسابها الشخصي في تويتر بتاريخ 8 أبريل الماضي.

بعد أسبوع عادت أماندا سبيبر إلى عاصمة إفريقية وكتبت تقريرا لصحيفة الغارديان عن مقديشو، لقد كان التقرير دعائيا كاذبا قالت فيه: إنّ مقديشو مقسمة ومفككة، وإن المليشيات منتشرة في الشوارع وتنتاحر!

يا أماندا ما هذا الارتزاق الفاضح المخزي؟ لو كانت المليشيات تتناحر في مقديشو لما أمكنكِ التجول بكل ذلك الأمان والاطمئنان، مؤسف هو حال المراسلين المقيمين في شرق إفريقيا الذين تحولوا إلى مرتزقة يعتاشون على الكذب.

وأذكر قبلها بأيام، تواصل معي موقع إخباري للعمل كمراسل من أجل إعداد تقارير عن الصومال، وعندما تتبعت سياسة التحرير عرفت أنه موقع معاد للصومال فاعتذرت لهم. ‏قد يقول قائل: دور الإعلام الأساسي نقل السلبيات والإثارة والأكشن والجدل والاستقطاب.

غير دقيق، ربما يكون هذا دور الصحافة الصفراء ومثيلاتها، الإعلام الحقيقي الموضوعي مكلف بنقل الصورة كما هي دون تلفيق أو اصطناع أو تمثيل أو اختلاق. ‏الإعلام الحقيقي هو أن تنقل حياة الناس بكل مشاعرهم وآرائهم ويومياتهم، أن تنقل الواقع كما هو، ما يحدث في تعاطي الإعلام مع الصومال هو تَعَمُّد التشويه والتلفيق والكذب والمبالغة. فبينما أتناول الكنافة وأشرب الشاي الصومالي في أحد مقاهي مقديشو؛ إذْ تقع عيني على خبر يقول إن المليشيات انتشرت في مقديشو، وأنّ الحرب اندلعتْ وأنّ هذه بداية النهاية، أَنظر يميني وشمالي فلا أجد شيئا من كلّ هذا، أواصل قضم الحلوى وأُكْمل شُرْب الشايِ بتؤدة.. ثم ألعنُ مرتزقة الإعلام.

غالبا المراسل الأجنبي المهتم بالشأن الصومالي يملك أغلى الكاميرات وأكثرها تطورا وتقنية ويجلس طيلة العام ينتظر وينتظر وينتظر .. حتى تحدث إشكالية أمنية حينها يُخرج الكاميرا ويصور تلك الإشكالية ليُرِيَها العالم، هذه هي الزاوية التي يريدون من العالم أن يشاهد عبرها الصومال!

انبهار .. فزهْوٌ وافتخار

لو كنتَ طيراً يُحَلّق في سماء مقديشو لرأيت دويبات مقوسة الظهر تتحرك في كل الأرجاء بسرعة عجيبة ونحو اتجاهات خطوط الطول والعرض، وكأنّ خيْطاً ناظما يسيرها عن بُعْد. حركةٌ دائرية لولبية تجمع تلك الدويبات في نسق محير ومثير للدهشة! نسقٌ يتماهى مع حركات الالكترون في المجرات .. أنْعِم النظرَ .. وقرِّبْ زاوية الرؤية: إنها البجاجات، ومفردها بجاج باللغة الصومالية، (التٌّوكْ تُوكْ) هو أكثر وسيلة نقل متاحة في مقديشو، سريعة، فعالة، متوفرة في كل مكان وزمان، وسعرها رخيص.

فأيّ مغربي يأتي بعدي إلى مقديشو لن ينبهر له سائقو البجاجات، لأنهم قابلوا مغربيا قبله، إنّ الانبهار لا يحدث مرتين.

وقد جربتُ تطبيقات التاكسي في مقديشو وهي تطبيقات ناجحة وخدماتها فاخرة؛ لكنّي أُحِبّ الروح الشعبية والبساطة؛ لذلك متعة ركوب البجاج مع سائق مرح وكوميدي مع انبثاق أغنية صاخبة للفنان الصومالي غوليد سيمبا، تلك المتعة الشعبية أفضلها ألف مرة على ركوب سيارة مكيفة سائقها رسمي مثل الروبوت لا يتحدث إلا لماما، أما سائق البجاج فيخزن القات، ومزاجه عالٍ، ويضحك معك مُعَلّقاً على كلّ شيء؛ النساء والاقتصاد وريال مدريد والكيمياء والبرازيل والصيدليات …

ولم أركب قطّ بجاجا وعَرَفَ سائقه أنّني مغربيّ إلا انبهر وقال: إنها المرة الأولى التي يقابل فيها مغربيا! لقد كان ذلك الانبهار يُشّكّل لي زهوا وافتخارا؛ لأنه انبهار صادق -والأهم أنه نادر- فأيّ مغربي يأتي بعدي إلى مقديشو لن ينبهر له سائقو البجاجات، لأنهم قابلوا مغربيا قبله، إنّ الانبهار لا يحدث مرتين.

مرة عرف سائق بجاج ركبت معه أنني مغربيّ، فراح يتأمل وقال بصوت وقور: بلدي الصومال صار متطورا ومزدهراً!

قلت له:صدقت، لكن لماذا قلت ذلك الآن وما المناسبة؟

أجاب: لأن الأجانب صاروا يأتون إلينا!

قُضِيَ الأمر: هذا زمان الصومال

لعليّ مولع باقتناص اللحظة، فسُنّة الحياة تقضي تَبَدُّل الأحوال وتَغَيُّرها وتقلُّب الأيام وتداولها، فالكَيّسُ من يقتنص اللحظة قبل فواتها وانقضائها، والفَطِنُ مَنْ يعيش اللحظةَ قبل استحالتها تاريخا وذكرياتٍ؛ لذا يمَمْتُ وجهي شطر مقديشو، لعليّ أظفَر باللحظات الأولى لانتقال مقديشو من فترة التسعينات إلى عصر النمو والازدهار والاستقرار.

فها هي مقديشو تكتظ بالأجانب من تركيا وباكستان ومصر والسودان وأوروبا وكينيا وإثيوبيا.. يعملون في شتى المجالات التجارية والاقتصادية. فلكم أن تتخيلوا حالها بعد سنوات قليلة وقد صارت مقصدا يؤُمُّهُ الناس، إنّ اقتناص اللحظة فَنٌّ لا يجيده من يتكاسل عن معرفة الحقيقة بنفسه؛ ليوكل تلك المهمة إلى وسائل الإعلام.

ومقديشو هي كالأم الحنون، تسع بحضنها وحبها كل القادمين إليها، تشُدّ أزرهم وتُقَويّ عضدهم وتربت على أكتافهم وتمسح أحزانهم وتحقق لهم كل الآمال. استقبلت مقديشو -بنقاء أهلها وصفائهم- السوريين واليمنيين، وقدّمَت لهم كل التسهيلات ففتحوا المشاريع التجارية دون تعقيد أو مضايقة، وأتاحت لهم فُرَص العملِ والوظيفةِ دون مَنٍّ أو أذىً.

لقد كان الصوماليون يهاجرون إلى سوريا واليمن أيام الحرب الأهلية فانعكست الآية، وإنكم ستشاهدون انعكاس آيات كثيرة في الصومال، فهلال التطور والنهوض والازدهار تمت رؤيته في مقديشو وما يلبث أن يكون بدراً.

ستذكرون ما أقول لكم؛ إنّ الصومال سيصير في السنوات القليلة القادمة مَضْرِب المثل في السلام والاستقرار والقمة والقيادة والريادة. إنّ قطار الصومال انطلق ولن توقفه الصور النمطية الإعلامية، فهذا زمان الصومال.. قُضِيَ الأمر.


الشريف عبدالرحمن 

كاتب ورحالة مغربي زار معظم الدول الافريقية الفرنكفونية ويقيم في بعضها ، تخصصه الجامعى ادارة  الاعمال 


Next Post Previous Post