القرن الأفريقي.. الأهمية الإستراتيجية.. التركيبة الإثنية والصراعات الداخلية


مقدمة:

تعتبر منطقة القرن الأفريقي(1) واحدة من المناطق الإستراتيجية بالغة الأهمية في التقسيم الجيوبوليتيكي للعالم. فقد استحوذت طيلة التاريخ القديم والحديث على أهمية محورية في حركة المواصلات البحرية، علاوة على امتلاكها لعوامل جذب داخلية سواء بفعل مواردها الطبيعية أو بسبب مايتفاعل بها من تناقضات عرقية وسياسية وحضارية مختلفة، شأنها شأن جميع المناطق الإستراتيجية الهامة، تعتبر منطقة القرن الأفريقي جيوبوليتيكيا أكثر اتساعا وأشد تأثيرا عنها من الناحية الجغرافية. ذلك أن منطقة القرن الأفريقي على الصعيد الجغرافي تضم فقط كل من الصومال وأثيوبيا وأرتيريا وجيبوتي، أما على المستوى الجيوبوليتيكي، فإن المنطقة تشمل أيضا العديد من الدول والقوى التي تتفاعل وتتبادل علاقات التأثر والتأثير فيما بينها، مما يجعل منطقة القرن الأفريقي جيوبوليتكيا يضم مساحة هائلة من الدول التي تمتد عبر النتوء الشرقي للساحل الشمالي الشرقي لأفريقيا، المطل على خليج عدن والمحيط الهندي والمداخل الجنوبية للبحر الأحمر، والممتد من الداخل حتى حدود أثيوبيا وكينيا والسودان والصومال، ويمكن ذلك في هذا الإطار الإشارة بصفة خاصة إلى اليمن والسودان وكينيا بوصفها دولا ترتبط بعلاقات بالغة الخصوصية مع القرن الأفريقي.

وعلى هذا الأساس، فإن منطقة القرن الأفريقي تستمد قدرا من الأهمية من قيمتها الإستراتيجية من ارتباطها الوثيق بالبحر الأحمر، والذي يعتبر بدوره من أهم طرق المواصلات البحرية في العالم، لاسيما باعتباره حلقة الوصل بين الشرق والغرب، وقد ازدادت هذه الأهمية بطبيعة الحال مع اكتشاف النفط في الخليج العربي وإيران وشبه الجزيرة العربية، والاعتماد على البحر الأحمر لنقله إلى الغرب، ثم تضافرت مع هذه الأهمية دوافع أخرى للقوتين العظميين وقتذاك في صراعهم العالمي تتعلق بالاحتواء وبسط النفوذ والولاء الأيديولوجي وما إلى ذلك(2).
 ولقد شهدت هذه المنطقة خلال الأعوام الماضية، تطورات بالغة الأهمية، لم تقتصر تأثيراتها على دولها فحسب، إنما امتدت للسياسة الدولية، تتعلق بحالة تواتر عمليات إعادة التركيب وبناء العلاقات بين دول القرن الأفريقي التي شهدت منذ أقدم العصور توترات ونزاعات لازالت مستمرة إلى وقتنا الحالي.

كل هذه المعطيات المشار إليها سابقا، أعطت لمنطقة القرن الأفريقي نوع من التميز  خلال العقود الثلاثة الماضية، حيث أخضعت لدرجة عالية من الاستقطاب من جانب الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا بعد تفكك الإتحاد السوفيتي، إذ أدت الأهمية الإستراتيجية للقرن الأفريقي إلى احتدام التنافس الدولي عليه منذ الستينيات، حيث بدأ ذلك من خلال استغلال الصراعات الإقليمية بين دول المنطقة، لاسيما بين الصومال وأثيوبيا، والتي نبعت في الواقع بسبب الحدود الموروثة من العهد الاستعماري، وهي المشكلات التي ضلت منذ ذلك الوقت سببا لأزمة عنيفة في المنطقة، وصلت في عامي1964و1977 إلى درجة الانفجار العسكري المدوي.

أما من حيث المصادر التي تتعلق بالصراع الإقليمي والداخلي في منطقة القرن الأفريقي فإنها تمتاز بطبيعة بالغة التعقيد نابعة من تعدد أبعاد ومستويات الصراع في المنطقة وهو مايبدو واضحا في أن الخلافات الحدودية بين دول المنطقة تختزل في داخلها صراعات ضارية بين القوميات في أثيوبيا والصومال وكينيا وجيبوتي وأرتيريا، كما تتداخل في ذلك أيضا الأبعاد الحضارية والدينية والعرقية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، أما التعدد في مستويات الصراع فيبدو واضحا في أن المنطقة شهدت أشكالا شتى من الصراعات تراوحت مابين الحروب النظامية واسعة النطاق وحروب الاستقلال والحروب الأهلية والانقلابات العسكرية، ومع ذلك يمكن إرجاع معظم صراعات القرن الأفريقي إلى مصدرين رئيسين هما:

أولا: الموروثات الاستعمارية:

 ويتضح ذلك في أن الخريطة السياسية لمنطقة القرن الأفريقي عقب الاستقلال تناقضت إلى حد كبير مع التوزيعات القومية والعرقية والإقليمية والقبلية واللغوية، حيث فرض الاستعمار حدودا مصطنعة بين دول المنطقة، وأثرت هذه الحدود المصطنعة تأثيرا سلبيا خاصة على الصومال، حيث أصبح الصومال مقسما إلى خمسة مناطق

(3)، أضف إلى ذلك أن التحيز الأوروبي والأمريكي على وجه الخصوص لصالح أثيوبيا أدى إلى تمكين نظام هيلاسلاسى من ضم إقليم أرتيريا في وضع فيدرالي عام1952، ثم إدماجها في الإمبراطورية الأثيوبية عام1925، الأمر الذي تسبب فيما بعد في إشعال حرب دامية استمرت ثلاثين عاما، لم تنته إلا بعد حصول أرتيريا على استقلالها في أفريل1993.

ثانيا: أزمة الاندماج الوطني

 تعتبر أزمة الاندماج الوطني في منطقة القرن الأفريقي سببا رئيسيا للصراعات الداخلية، ذلك أن معظم دول القرن الأفريقي عبارة عن فسيفساء قومي وعرقي وقبلي، تتعارض فيه الانتماءات والو لاءات الأولية داخل الدولة الواحدة، وقد أدى هذا الوضع إلى سيادة وهيمنة( الروح القبلية) بدلا من مبدأ (المواطنة) وساعد على ذلك أن كثيرا من تلك الدول تبنت مناهج عقيمة للإدماج الوطني ارتكزت على قيام النظم الحاكمة( المنتمية بالضرورة إلى جماعة قومية أو عرقية) بتجاهل واستبعاد الجماعات القومية والعرقية الأخرى، وقد بدا هذا التوجه خاصة في أثيوبيا تحت الحكم الإمبراطوري والماركسي، والذي كان مرتكزا على العنصر الأمهري بالكامل، أضف إلى ذلك أن الصومال ذاتها التي تتميز بتجانس قومي ولغوي وديني ولغوي فريد، لم تفلت من هذه الأزمات، حيث كانت السياسات الحكومية في عصر سياد بري محكومة بالروح القبلية، إذ أنه أسند إلى كافة أفراد قبيلة( المريحان) كافة المراكز السياسية الهامة في البلاد، ثم ضيق دائرة المشاركة السياسية حتى انحسرت في دائرته الخاصة، الأمر الذي أدى إلى شعور الجماعات العرقية الأخرى بانعدام الثقة والعدالة، مما فتح الباب واسعا أمام موجات هائلة من الحروب الأهلية في القرن الأفريقي والتي شكلت في بعض الحالات تهديدا حقيقيا أمام بقاء كيان الدولة في حد ذاته. وسنحاول من خلال هذا المقال أن نتحدث عن الأهمية الإستراتيجية للقرن الأفريقي، التي جعلته منذ عصور من المناطق الأكثر اهتماما من قبل الدول الكبرى، سواء أتعلق الأمر بالدول الأوروبية، أو دول جنوب شرق آسيا، وكذا الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الدول العربية التي تعتبر القرن الإفريقي امتدادا لأمنها المائي،


ثم نعرج للحديث عن الصراعات الداخلية، داخل البلدان المشكلة للقرن الأفريقي. ونتحدث عن التركيبة الإثنية والعرقية، إضافة إلى التنوع الثقافي والهوية المشتركة التي تربط سكان القرن الأفريقي، بعضهم ببعض(4).

أولًا:الأهمية الإستراتيجية للقرن الأفريقي

القرن الأفريقي هو ذلك الجزء البارز من الجانب الشمالي الشرقي للقارة الأفريقية أحادية القرن، ويحد جغرافيا من الغرب بخط وهمي يمتد من خط الحدود السياسية بين كينيا والصومال إلى حدود جيبوتي الغربية.

ويمتد جغرافيا خلال خليج عدن والمحيط الهندي. فالساحل الصومالي يمتد من منطقة رحيتا الأرتيرية في خليج عدن إلى رأس غور دفوي، ومنها إلى حدود كينيا لمسافة تزيد عن 2500 كلم، في منطقة تمثل طريقا هاما يربط شرق أفريقيا بالخليج العربي وبالقارة الآسيوية من ناحية وقناة السويس من ناحية أخرى، ويمثل من ناحية أخرى عمقا استراتيجيا للامتداد الجغرافي المتصل دون انقطاع من مصر التي تمثل قناة السويس فيها المدخل الشمالي للبحر الأحمر، وحتى باب المندب في الجنوب مرورا بالسودان وأرتيريا(5).

وهذا الموقع أتاح لمنطقة القرن الأفريقي سهولة الاتصال وتبادل الآراء والأفكار والاحتكاك بمناطق العالم المختلفة، أما فيما يختص بتعريف المنطقة وعدد الدول المكونة لها، فقد اختلف المهتمون والمختصون في ذلك. فالجغرافيون يرون أن القرن الأفريقي، يتمثل في نتوء اليابسة الذي يبدأ من إريتريا شمالا وحتى خليج عدن شرقا، ثم ينحدر جنوبا على المحيط الهندي شاملا أثيوبيا وجيبوتي والصومال حتى إقليم النقد في شمال كينيا. أما الأنثروبولجيون فيقصدون بالقرن الأفريقي أساسا، الأراضي التي تسكنها القبائل الصومالية وإن تعددت أوطانهم سواء في الصومال أو جيبوتي،   أو أثيوبيا أو كينيا (6)

 والمنظمات الدولية والإقليمية والسياسيون ومراكز الدراسات الدولية فيقصدون بالقرن الأفريقي، الصومال وأثيوبيا وأرتيريا وجيبوتي كوحدات سياسية قائمة على الساحل الشرقي للقارة، ومنهم من أضاف إليه السودان وكينيا، لاعتبارات جيو إستراتيجية ولتداخل الحدود والأقليات.

 أما الأدبيات الأمريكية فقد وسعت من نطاق المفهوم ليشمل عشرة دول، تمتد من أرتيريا شمالا وحتى تنزانيا جنوبا، ليضم أثيوبيا وأرتيريا وكينيا وأوغندا وتنزانيا والصومال والسودان وجيبوتي وروندا وبورندي، تحت اسم القرن الأفريقي العظيم(7).
بل أن هناك من وسع من نطاق المفهوم ليدخل دولا من خارج الإقليم، بحيث يتعدى الحدود الإقليمية للمنطقة، ليظم دولا مثل، اليمن والسعودية.

إن عدم الاتفاق حول تعريف مفهوم منطقة القرن الأفريقي، يؤكد بأن الدلالة السياسية للمنطقة تتعدى الدلالة الجغرافية، نظرا للأهمية التي يحتلها موقعها المتميز والمؤثر على التفاعلات الجارية في منطقة واسعة تحتوي على مساحة كبيرة من الأرض والبحار والممرات، فالمنطقة تشرف على ممرين مائيين في غاية الأهمية، فهي تتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، الذي يعتبر أحد طريقي مرور ناقلات النفط في الخليج والجزيرة العربية إلى الدول الصناعية، مرة بقناة السويس. كما تطل هذه المنطقة أيضا على المحيط الهندي الذي تتحرك عبره أساطيل القوى الدولية الكبرى باستمرار، وهم ما أكسب دول المنطقة أهمية كبيرة، كونها تمثل نقاط ارتكاز برية وبحرية على هذه الممرات المهمة في الإستراتيجية العالمية(8). وأتاح لها الاتصال بجهات العالم الحيوية، باعتبارها تتحكم في طريق الملاحة الدولية شمالا وجنوبا وشرقا، وجعل منها أيضا نقطة وثوب لمن يتحكم فيها، وحلقة من حلقات الأحزمة الإستراتيجية في العالم، وبالتالي فمن يسيطر عليها تكون، الممرات البحرية بين مضيق هرمز، وباب المندب في تناوله.

 الأمر الذي جعل من منطقة القرن الأفريقي تتداخل أمنيا وسياسيا واقتصاديا، ليس فقط مع منطقة حوض البحر الأحمر، وإنما ارتبطت وتداخلت أيضا مع مناطق من خارج النطاق الجغرافي لحوض البحر الأحمر، بحكم ارتباط مصالحها مع المنطقة ، لاسيما بعد افتتاح قناة السويس سنة1869، واكتشاف النفط في الجزيرة العربية والخليج، فالبحر الأحمر بحكم موقعه الجغرافي يربط بين ثلاث قارات، هي آسيا وأفريقيا وأوروبا، فهو بمثابة الرابط بين الدول النامية في آسيا وأفريقيا وبين الدول المتقدمة في الغرب(9).

إضافة إلى ذلك فإنه يتوسط مناطق بالغة الحساسية، مثل منطقة القرن الأفريقي والعالم العربي.

فالوضع الجغرافي للبحر الأحمر يجعله يرتبط ارتباطا عضويا بمنطقة القرن الأفريقي عند جنوبه، وبمنطقة الخليج العربي في شرقه، ومنطقة البحر الأبيض المتوسط في شماله، ومغزى هذا الارتباط الجغرافي يكمن في الارتباط السياسي والأمني، حيث تتنقل التفاعلات وبالتالي الصراعات لتلك المنطقة(10).

وباعتبار منطقة القرن الأفريقي مرتبطة بالبحر الأحمر، وتشكل معه حلقة محورية في التحكم في حركة المواصلات النفطية وحركة المرور البحري والعسكري مابين البحر المتوسط والبحر الأسود والمحيط الأطلنطي وبين المحيط الهندي والمحيط الهادي، فإنها ترتبط بمنطقة الخليج العربي تلقائيا بحكم التداخل والترابط بين المنطقتين، خاصة وأن صادرات الخليج العربي النفطية تمر عبر مضيق باب المندب الذي تسيطر عليه دول القرن الأفريقي واليمن(11).

وفي السياق ذاته، اتضح الترابط والتداخل بين منطقة القرن الأفريقي والصراع العربي الإسرائيلي أثناء حرب أكتوبر1973، عندما قامت اليمن بالتعاون مع القوات المصرية بإغلاق مضيق باب المندب أمام الملاحة الإسرائيلية إلى إيلات، والتي على إثرها أصبحت منطقة القرن الأفريقي تحظى بأهمية كبرى من الطرفين وخاصة إسرائيل، كونها أصبحت مرتكزا من المرتكزات الفاعلة في الصراع العربي الإسرائيلي، وميدانا جديدا للتنافس بين القطبين.

من ناحية ثانية تمتلك منطقة القرن الأفريقي مقومات إستراتيجية أخرى، غير تلك المرتبطة بالمياه في البحر الأحمر والمحيط الهندي، وذلك لما تحويه المنطقة من موارد اقتصادية مختلفة، أهمها المياه، فالمنطقة تمثل الخزان الرئيسي التي تزود مصر والسودان بالمياه الصالحة للشرب، ذلك أن نهر النيل يتبع في جزئه الأكبر هذه المنطقة، إذ ترفد أثيوبيا نهر النيل بحوالي85 من مياهه(12).

ولمكانة هذا المورود الحيوي زاد الاهتمام به على كافة الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث أصبح يشكل محورا مهما في التفاعلات الدولية، واحتل مواقع مهمة في المؤتمرات العالمية والإقليمية، مما يشير بأن قضية المياه ستصبح في القريب العاجل إحدى القضايا الساخنة في العلاقات الدولية، والتي من الممكن أن تؤدي إلى زعزعة الأمن والاستقرار في مناطق كثيرة من العالم ، وبخاصة في منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل، لسهولة التأثير على إحداثها من قبل القوى الدولية التي تجد في المنطقة مجالا خصبا لممارسة أنواع التأثير عليها، بحكم تركيبة بلدانها الإثنية والثقافية التي تتسم بالتعددية القومية والدينية واللغوية(13).

ولذلك فليس غريبا أن تحض هذه المنطقة باهتمام القوى الدولية المختلفة، وليس غريبا أيضا أن تبرز رؤى وأفكار جديدة تتبناها دوائر وأوساط دولية مختلفة تجاه دول المنطقة، التي تتعامل مع مفهوم القرن الأفريقي بمفاهيم جديدة متعددة، أهمها توسيع هذا المفهوم ليشمل دولا جديدة لا تنتسب تقليديا لمنطقة القرن الأفريقي(41).

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل كما أشرنا سالفا بأن منطقة القرن الأفريقي تعتبر جيو بوليتيكيا أكثر اتساعا وأشد تأثيرا عنها من الناحية الجغرافية، حتى بالمفهوم الواسع، فالمنطقة تشمل على العديد من القوى التي تتبادل علاقات التأثير والتأثر المرتبطة بها بحكم مصالحها المختلفة، أيا كانت المسافة التي تفصلها عن المنطقة، ولذا كان من الطبيعي أن تهتم بها القوى الدولية المختلفة، بحكم أهميتها الإستراتيجية وموقعها الجغرافي، الذي يسمح بمراقبة وتأمين طريق النفط من دول الخليج إلى الدول الصناعية، خاصة بعد فشل طريق رأس الرجاء الصالح في تقديم البديل المناسب لطريق قناة السويس، التي تمتلك ميزات تجارية وعمرانية، وملاحية تفوق ما يقدمه طريق رأس الرجاء الصالح.

أهمية القرن الأفريقي للقوى العظمى

 تعتبر منطقة القرن الأفريقي مجالا حيويا واستراتيجيا، للبلدان العربية والقوى الكبرى

أ/ البلدان العربية:

تعد منطقة القرن الأفريقي ذات أهمية بالغة للمنطقة العربية وتشكل عمقا إستراتيجيا لها.

وترتبط بها على أكثر من مستوى، نتيجة الجوار الجغرافي والتداخل البشري، وعلاقات القربى والتفاعل التاريخي والحضاري.

فهذه المنطقة تشكل وقبل كل شيء جزء مهما من الوطن العربي، لوجود ثلاث دول فيها تنتمي للوطن العربي، وهي السودان وجيبوتي والصومال.

وإذا كانت المنطقة تتمتع بأهمية إستراتيجية ملحوظة بالنسبة للقوى الدولية المختلفة، بحكم موقعها الجغرافي، وإطلالتها على الممرات البحرية، المهمة للملاحة والتجارة الدولية.
وإجمالا نستطيع القول، بأن عروبة السودان والصومال وجيبوتي، والتحكم في منابع النيل

وتأمين الاحتياجات المالية لكل من مصر والسودان والصومال، وأمن البحر الأحمر، تمثل محاور مهمة بالنسبة للوطن العربي في هذه المنطقة، نظرا لارتباطها المباشر بالأمن القومي العربي بشكل عام، وتأثيرها في المصالح الحيوية لبعض الأطراف العربية على وجه الخصوص.

ب/ الإتحاد الأوروبي:

 يرجع الاهتمام الأوروبي بمنطقة القرن الأفريقي إلى الروابط التاريخية والثقافية، التي تعود إلى الفترة الاستعمارية(15)، فهذه المنطقة خضعت للاستعمار البريطاني والفرنسي والبرتغالي والإيطالي فترة من الزمن، تركت أثرها على مختلف نواحي الحياة في هذه المنطقة. ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن ضلت هذه المنطقة من أهم المناطق الإستراتيجية في القارة الأفريقية بالنسبة للدول الأوروبية، سياسيا واقتصاديا وثقافيا.

فالمنطقة بحكم موقعها الإستراتيجي المشرف على ممرات وخط الملاحة الدولية( باب المندب- قناة السويس) استحوذت على اهتمام كبير من قبل الدول الأوروبية. ذات المصالح وصاحبة الأساطيل التجارية المختلفة العابرة لهذا الشريان الحيوي، لاسيما وأن هذا الطريق قد ساهم في الماضي في الطفرة الصناعية والحضارية الحديثة التي شاهدتها أوروبا، لذلك تحاول أوروبا إثبات مشاركتها في هذه المنطقة، لحماية مصالحها، وتأمين طرق المواصلات والممرات الهامة، والحيلولة دون إنفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالتحكم في أوضاع المنطقة(16).

خاصة وأوروبا تعتقد بأنها الأحق منها بهذه المنطقة، لاعتبارها صاحبة النفوذ التقليدي فيها. لهذا فأن أوروبا تعمل على إثبات تواجدها مقابل التواجد الأمريكي في المنطقة، وتأكيد إرادتها المستقلة ووزنها الدولي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
وعلى وجه الخصوص فرنسا صاحبة التواجد العسكري في المنطقة من خلال قاعدتها في جيبوتي، التي  أتاحت لها إمكانية كبيرة لمراقبة المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وتأمين مصالحها ومصالح دول الإتحاد الأوروبي.

لذلك تعمل دول الإتحاد على دعم الأمن والاستقرار في المنطقة، لخدمة مصالحها المختلفة والتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الشأن، لوجود مصالح مشتركة بينهما، خاصة التصدي للتوجهات المعادية للمصالح الغربية بوجه عام، وحماية الأنظمة الحليفة لهم في المنطقة.

ج/ الدول الآسيوية:

تحظى منطقة القرن الأفريقي باهتمام واضح من قبل الدول الآسيوية، فإلى جانب إهتمامها بموقعها الجغرافي المشرف على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، الذي تمر عبره معظم صادراتها ووارداتها، احتلت أهمية اقتصادية كبيرة، فهذه الدول تتطلع منذ انتهاء الحرب الباردة إلى إرساء نفوذها وتثبيت مصالحها في المنطقة، عبر مشاريع التنقيب على النفط والثروات الأخرى، لاسيما بعد اكتشاف احتياطات نفطية في بعض دولها مثل السودان. وكذلك فتح الأسواق أمام منتجاتها المختلفة، خاصة بعد ظهور أفريقيا كسوق رابحة وبالذات للتقنية الآسيوية، ومن هذه الدول الصين واليابان وايران.

فالصين واليابان تعملان على اختراق أسواق المنطقة، وتأمين مناطق نفوذ، وتأمين تدفق المواد الخام(17)، وإيران تزيد على ذلك بتدعيم اهتمامها على الجانب الثقافي، باعتبار أن معظم سكانه يدينون بالإسلام، لذلك تحاول إيران توظيف هذا العامل ليكون لها دورا بارزا في المنطقة

إجمالا يمكن القول أن القرن الأفريقي محل اهتمام واسع من دول آسيا، بحكم ارتباط مصالحها بها.

ثانيا: التركيبة الإثنية لدول القرن الأفريقي

الاختلافات والتعددية الإثنية ظاهرة طبيعية في مختلف الأمم والشعوب، تكاد لا تخلو منها دول العالم، فالتكوين الفسيفسائي سمة أغلبية الشعوب والمجتمعات الحديثة. فكل مجتمع يحتوي على أجناس وجماعات مختلفة تتفاعل فيما بينها في نطاق الوحدة السياسية، فالتعددية لها وجود طبيعي في كل مجتمع إنساني، ويكون وجودها أكثر وضوحا عندما تتسع الدولة.

ومنطقة القرن الأفريقي مثلها مثل باقي دول العالم، يظهر فيها بوضوح التعدد الإثني، فحدود هذه الدول كما هو معروف خطط له من قبل الدول الاستعمارية الأوروبية، دون أية مراعاة لأوضاع الجماعات الإثنية، حيث تداخلت الإثنيات وتعددت بين الدول وداخلها، وعند خروج الاستعمار من المنطقة، فشلت الدول المستقلة في التعامل مع الظاهرة الإثنية، وعدم قدرتها على السيطرة عليها داخل أنظمتها السياسية، وزاد من الظاهرة أن تبنت هذه الدول سياسات فاشلة للاندماج الوطني الواحد، ارتكزت على قيام النظم الحاكمة التي تنتمي في أغلبها إلى جماعات قومية وإثنية، واستبعاد الإثنيات الأخرى في سياساتها المبنية على منطق التعصب المركزي المستند إلى توجيه الاستثمارات الحكومية والإنفاق الحكومي نحو خدمة هذه الجماعات الإثنية دون غيرها من الجماعات الأخرى(18)، مما خلق داخل الدولة الواحدة تناقضا وتصارعا بين الانتماءات الفرعية، ترتب عليها ولاءات ضيقة ومحدودة لا تعترف بالولاء الوطني أو للجماعة الوطنية الشاملة، فالأغلبية المسيطرة عمدت إلى اضطهاد الأقلية أو الأقليات الاثنيةالأخرى، وهو مادفع تلك الأقليات عندما سمحت الفرصة لها إلى استخدام العنف والتمرد على النظام السياسي، الذي واجه الأمر باستخدام القوة المسلحة، الأمر الذي أدى إلى تفجر الصراعات  والحروب الأهلية في معظم دول القرن الأفريقي(19).

ويزداد الأمر سوء عندما تسيطر الأقلية العددية في بعض الدول على السلطة السياسية، وقيامها باستبعاد وحرمان الأغلبية وبعض الأقليات من حقوقها المختلفة، الأمر الذي يدفع بالصراع إلى مستويات أعلى ماهو في الحالات الطبيعية، أي الحالات التي تسيطر فيها الأغلبية على مقاليد السلطة والحياة العامة في الدولة، وهذه الأوضاع الإثنية هي التي تغلب على الخارطة الإثنية لمنطقة القرن الأفريقي.

أولا: أثيوبيا

أثيوبيا دولة تتسم بتعدد الجماعات الإثنية، فموسوعة العالم الثالث ترى بأن أثيوبيا تعد متحفا للجماعات الإثنية، فهي تحتوي على أكثر من70 جماعة إثنية من أصول وديانات ولغات مختلفة ومتباينة، والجماعات الأثيوبية تختلف في حجمها وثقافتها ولغتها ولهجاتها وانتشارها الجغرافي، وتختلف أيضا في مكانتها التاريخية، ومن ثم علاقتها بالجماعات الأخرى ووزنها السياسي في الدولة.

ويمكن تناول هذه الجماعات من حيث أهميتها وبنسبتها إلى السكان على النحو التالي:
الأرومو( الجالا): وهي أكبر إثنية أثيوبية وتشكل حوالي40% من نسبة السكان في أثيوبيا، تليها الأمهرة بنسبة35%، والتجرين6% والسيدامو6% والشانكيلا6% والصوماليون6%والعفر4% والكوراج بنسبة2%.

علاوة على وجود أقليات ضئيلة من حيث العدد مثل: القبائل النيلية على امتداد الحدود مع السودان والبجة في المنطقة الشمالية، ولاجو في وسط الهضبة واليهود الفلاشا .

والجدير بالذكر بأن القومية الحاكمة هي الإثنية التجرينية وهي أقلية، حيث سيطرت على السلطة بعد سقوط النظام العسكري في أوائل التسعينيات، علما بأن الأمهرا كانت المسيطرة على السلطة خلال فترات سابقة.

ثانيا: أرتيريا

كانت أرتيريا بحكم موقعها الجغرافي معبرا لأجناس وشعوب مختلفة، منها السامية والحامية والزنجية، نتج عنه مجتمع متعدد القوميات شكل المجتمع الأرتيري الحديث، وهذا باعتراف كل من جبهة التحرير الأرتيرية والجبهة الشعبية لتحرير أرتيريا، بل إن الجبهة الأخيرة وهي الجبهة الحاكمة، ترى أن المجتمع الأرتيري يتكون من تسع قوميات مختلفة، ومتفاوتة فيما بينها، ورغم أن تجربة النضال الوطني الأرتيري، قد طورت شعور وطنيا بانتماء لدى الشعب الأرتيري، وأسست لديه هوية وطنية ( إقليمية) متميزة(20)، إلا أن الأمر لا يخلو من مطالب وانتقادات بقايا الفصائل الأرتيرية الأخرى التي لم تشارك في الحكم، والتي قد تسبب مشاكل وصراعات داخلية. خاصة وتاريخ القومية الأرتيرية مفعم بالصراع الداخلي القائم على الانقسامات العرقية والطائفية. وهذا ما اتضح خلال الحرب الأهلية التي نشبت بين الحركات الأرتيرية( جبهة التحرير الأرتيرية والجبهة الشعبية لتحرير أرتيريا)، فقد كانت العوامل العرقية والطائفية والإقليمية مشتركة في هذا الصراع.

ولذلك فالشعب الأرتيري مثله مثل بقية شعوب المنطقة متعدد القوميات، ويتكون من تسع اثنيات مختلفة، من حيث الحجم والثقافة واللغة والديانة.

ثالثا: جيبوتي

تتكون الجماعة الوطنية في جيبوتي من قبيلتين، هما الصوماليون وأغلبهم من قبائل العيسى والعفريون أو الدناكل، إذ يشكل الصوماليون الأغلبية ويتوزعون على أربع قبائل هي العيسى والدارود والأباك والغارايورسي، أما العفريون فيتوزعون على قبيلتين هماالأدوباسرة ولا سايمرة. وتوجد إلى جانب هاتين المجموعتين مجموعات أخرى أهمها المهاجرون من الجزيرة العربية وبخاصة من اليمن، ومن الصعوبة بمكان معرفة العدد الحقيقي لكل مجموعة من المجموعتين الرئيستين، غير أن هناك من يرى أن الصوماليون يشكلون ثلثي السكان في حين يشكل العفريون الثلث الآخر، مع العلم أن الصوماليون في جيبوتي هم امتداد للصوماليين في دولة الصومال، أما العفريون فهم امتداد للأقلية العفرية الموجودة في دولتي أثيوبيا وأرتيريا(21).

رابعا: الصومال

يشكل الصوماليون وحدة سلالية واحدة مثلها مثل جميع دول القارة الأفريقية، فالصوماليون شعب حامي شرقيا اختلفت آراء العلماء حوا أصل تسميتهم. ويمثلون قومية واحدة من أكبر القوميات المتماسكة في أفريقيا، فهم متجانسون إلى حد كبير ومتميزون عمن حولهم، سواء من ناحية اللغة أو الدين أو العادات والتقاليد، إذ تصل نسبة التجانس الإثني إلى حوالي92%

ورغم وحدة السلالة في الصومال فان ذلك لم يمنع من انقسام الشعب الصومالي إلى عدة قبائل، تتفرع إلى عشائر وبطون يمكن تسميتها إلى مجموعتين كبيرتين هما الصومال والساب، ويشكل الصوماليون غالبية الشعب الصومالي ويستعار اسمها ليشمل مجموعة الساب، وينقسم الصوماليون إلى أربعة أقسام: الدير والاسحاق والهاوية والدارود وكلهم من الرعاة المتنقلين، أما الساب فينقسمون إلى الديجل والروحالوين، ويقيمون بين نهري جوبا وشيلي(22).

ورغم هذا التجانس الحاصل في دجولة الصومال إلا أنه يفتقر للوحدة الوطنية بين الطبقات الاجتماعية، مما أدى عبر التاريخ إلى تفكك الدولة الصومالية.

التداخلات الإثنية بين دول القرن الأفريقي

سنتعرض هنا للتركيبة الإثنية العابرة للحدود في المنطقة، ومن المعروف أن الاستعمار الغربي عندما وضع وخطط للحدود السياسية في المنطقة، عمل وحرص على تشتيت وتوزيع الجماعات الإثنية المختلفة في المنطقة بين دولتين وأكثر خدمه لمصالحه المختلفة، فتوزعت الجماعات الإثنية والقبائل المختلفة وعزلت عن مراعيها وأسواقها وأقاربها وأماكن عبادتها(23)، وهو ما أوجد بيئة مناسبة لتوتر العلاقات وتفجر النزاعات بين دول القرن الأفريقي.

ومنطقة القرن الأفريقي تعتبر أنموذجا للتداخل الإثني، القبلي بين الدول، فكل جماعة إثنية أو قبلية، في دولة من دوله لها عشيرة أو جزء من الجماعة في البلدان المجاورة، فالحدود السياسية قسمت القبيلة الواحدة أو الجماعة الإثنية إلى شطرين أو أكثر بين أكثر من دولة وأهم تلك الجماعات العابرة للحدود في منطقة القرن الأفريقي القبائل العفرية والصومالية، فالجماعة العفرية تنتشر في منطقة تلتقي عندها حدود كلا من أثيوبيا وأرتيريا وجيبوتي، وعلى الرغم من كون تلك الجماعة تعيش في رقعة جغرافية متصلة، فإنها لم تتمكن من تأسيس كيان سياسي مستقل بها، والعفر لم يتوزعوا في جيوب داخل أو بين الإثنيات الأخرى مثلهم مثل غيرهم من القوميات،بل أن العفر ينتشرون في منطقة صحراوية تمتد من السواحل الجنوبية لأرتيريا جنوب مصوع إلى السواحل الشمالية لجبوتي جنوب مدينة طاحورة من جهة الشرق، وحتى الهضبة الأثيوبية من جهة الغرب وتزداد هذه الصحراء اتساعا باتجاه البحر الأحمر مما يجعلها تظهر بشكل مثلث، لذلك كثيرا ما يطلق عليها بالمثلث العفري. وانطلاقا من الوحدة الإثنية والجغرافيا يسعى العفر إلى إقامة كيان سياسي خاص بهم، يقتطع أراضيه من أراضي الدول الثلاث: أثيوبيا وأرتيريا وجيبوتي، وهو الأمر الذي دفع الدول الثلاث إلى التعاون والتنسيق فيما بينها للوقوف أمام هذه الطموحات، وهذا المشروع وإجهاضه قبل أن يظهر إلى الواقع.

ورغم هذا التوجه الإستراتيجي بين الدول الثلاث حول المسألة العفرية، إلا أنها وفي أوقات تأزم العلاقات فيما بينهم،تحيد عن هذا التوجه، وتلجأ الأنظمة السياسية فيها إلى استغلال المسألة العفرية في التأثير والتدخل شؤون بعضهم البعض ، وخاصة أثيوبيا وأرتيريا(24).

فأثيوبيا لجأت إلى هذا الخيار أكثر من مرة وأتضح ذلك عندما قدمت الدعم والتشجيع للتحركات العفرية في جيبوتي، للوقوف أمام الأهداف الصومالية الرامية لضم جيبوتي إلى كيانها السياسي، خاصة والتكوين الإثني في جيبوتي يحتوي على أغلبية صومالية كما ذكرنا سابقا، وهو ماكان يقلق أثيوبيا، أيضا عملت أثيوبيا على تكوين وحدات من رجال العصابات من القبائل العفرية لاستخدامهم للتحرك ضد الحكومة الجيبوتية في حال تعرض مصالحها للخطر، وفي الوقت نفسه فإن أثيوبيا كانت تطمع أيضا لضم جيبوتي، على اعتبار أن قسما من سكانها العفر هم امتداد لجزء من سكانها من الأقلية العفرية، علاوة على ارتباط تجارتها الخارجية بميناء جيبوتي(25).

والأمر نفسه بالنسبة لأرتيريا قبل الاستقلال، فقد لجأت الجبهة الشعبية لتحرير أرتيريا أثناء نضالها ضد أثيوبيا إلى استغلال المسألة العفرية في التأثير على سير المواجهات مع القوات الأثيوبية، فعملت على تدريب ثوار العفر داخل أثيوبيا وتشجيعهم على مقاومة الحكومة الأثيوبية، ولكن بعد استقلالها عملت على هذه السياسة، فلم يعد من مصلحتها إقامة أي نوع من التعاون مع ثوار العفر ضد أي دولة من دول الجوار، لأن ذلك يؤثر على أمنها واستقرارها.

ورغم هذا التوجه، إلا أنها وأثناء حربها مع أثيوبيا في نهاية التسعينيات من القرن الماضي لجأت أرتيريا إلى استغلال المسألة العفرية في التأثير على سير المواجهات مع أثيوبيا من خلال تشجيع العفر في جيبوتي على القيام بأعمال من شأنها تهديد وزعزعة استقرار خط سكة حديد أديس أبابا- جيبوتي(26)، المهم بالنسبة لجيبوتي وأثيوبيا وهم ما يؤكد بأن المسألة العفرية ستضل عاملا من العوامل الضغط والتدخل في الشؤون الداخلية فيما بين الدول الحاضنة لهذه الجماعة.

أيضا تحفل المنطقة بصورة أخرى من صور التداخل الإثني متصلة بالجماعة الصومالية

فهذه الجماعة لها امتدادات سكانية في بعض دول الجوار فأكثر من آثار انقسام الصومال وتمزيق أوصاله.

 فالقبائل الصومالية تنتشر في كل من أثيوبيا وجيبوتي وكينيا، فقبيلة الهوية أكبر القبائل الصومالية لها امتدادات على الحدود الشمالية في كينيا وإقليم الصومال الغربي في أثيوبيا، وقبيلة الدارود أيضا لها امتدادات إلى إقليم الصومال الغربي وكينيا، وقبيلة الإسحاق التي تعتبر في أكثر القبائل الصومالية في شمال الصومال، ينتشر جزء منها في منطقة هود التي ضمتها بريطانيا إلى أثيوبيا عام1954-1955، وأخيرا تنتشر قبيلة الدير في جيبوتي وإقليم الصومال الغربي في أثيوبيا.

ولذلك فإن مشكلة الصومال ومنذ حصوله على الاستقلال، ظلت تنحصر في كيفية الوصول إلى دولة واحدة تظم كل أبناء الصومال، مما أدخل الصومال في مشاكل ومواجهات حدودية مع دول الجوار، وخاصة أثيوبيا. من بينها الصدام العسكري الصومالي الأثيوبي عام1964، واضطرابات جيبوتي في1966، علاوة على توتر العلاقة مع كينيا في العام نفسه، ولذلك ستضل مشكلة الجماعة الصومالية ترفد المنطقة بالكثير من عوامل عدم الاستقرار، خاصة بعد تفكك الدولة الصومالية وإعلان شمال الصومال

( الصومال البريطاني) وانفصاله عن الجمهورية الصومالية.
وإجمالا يمكننا القول بأن الامتداد الإثني لبعض الجماعات قد يسهم في تصاعد النزاعات والصراعات بين الدول في القرن الأفريقي وداخله، فالامتداد الخارجي لقومية أو جماعة إثنية ما، يوفر لها الكثير من وسائل الدعم والمساندة، خاصة في حالة حدوث صراع بينهما، وبين بعض الإثنيات الأخرى(27)، بينهما وبين الدولة التابعة لها، مما يؤدي إلى إطالة أمد هذا الصراع وتعقيده.

الاختلافات الثقافية بين دول القرن الأفريقي

تتميز شعوب منطقة القرن الأفريقي بتعددية ثقافية واجتماعية واضحة يصعب معها وصف الجماعات المختلفة المشكلة لهذه المنطقة بأنها جماعات إثنية فقط، وإنما هي بالإضافة إلى ذلك جماعات ثقافية وإقليمية، فالمنطقة تفتقر لتلك الوحدة الثقافية التي تمتعت بها منذ أكثر من2000 سنة ق.م، واستمرت حتى القرن السادس الميلادي(28)، ثم اضمحلت بعد ذلك بفعل عدة عوامل عرفتها المنطقة.

فالمنطقة وبحكم الظروف الطبيعية والتاريخية والسياسية، التي مرت بها أفرزت ثقافات مختلفة ومتناقضة بين الدول، وداخل الدول تراوحت مابين الثقافة العربية والأنغلوفونية والفرانكفونية والصومالية والأمهرية، فأرتيريا مازالت ومنذ الاستقلال غير قادرة على تحديد هويتها الثقافية وإثيوبيا أيضا عجزت عن تحديد هويتها الثقافية، فهذه الدولة وحتى بداية الخمسينيات كانت تقدم نفسها باعتبارها دولة شرق أوسطية، ثم تحولت إلى الاتجاه الأفريقي، أما جيبوتي فإنها تتأرجح بين الهوية العربية والفرانكفونية والصومالية، وبالرغم من هويتها العربية، إلا أن غلبة هويتها الصومالية تجعلها بعيدة ومختلفة عن جيرانها.
إذا يمكن أن نشير إلى هذه الاختلافات الموجودة بين هذه الدول فيما يلي:

أولا: أثيوبيا

تتعدد الهويات في أثيوبيا نظرا لتعدد القوميات المشكلة للجماعة الأثيوبية الناتجة أساسا عن سياسة الضم والاحتلال، التي اتبعتها الأنظمة السياسية المتعاقبة في أثيوبيا تجاه الجماعات والقوميات المجاورة لها، نتج عنه تعدد متباين في الثقافات.

فانتشار مايسمى بقومية الدولة تحت شعار الوحدة القومية كانت عبارة عن مبادرة سياسية اتخذتها الجماعة الحاكمة في محاولة منها لتعزيز المؤسسات الضعيفة وإحكام سيطرتها على المجموعة السياسية، بل إن تصور الجماعات الحاكمة للكيان القومي كانت تصور عاكسا لثقافتهم، ومن ثم ارتكاز الهوية القومية على الثقافة الأمهرية(29). دون سواها من الثقافات الأخرى، وهو ما أدى إلى رفض القوميات المستبعدة ثقافيا وسياسيا للهيمنة الثقافية للأمهرة، فالجماعة الأثيوبية تختلف فيما بينها في نواحي كثيرة، فمن الناحية اللغوية هناك أكثر من 140لغة ولهجة، أهمها: الأمهرة والتجرينية ولارومية والجالاوية والصومالية والعفرية.
أما من الناحية الدينية يتوزع سكان أثيوبيا على ديانات عديدة منها الإسلام والمسيحية واليهودية ومعتقدات طبيعية، علما بأن الأغلبية البسيطة من سكان أثيوبيا هم من المسلمين

بمعنى أن عددهم يفوق نصف السكان، أما المسيحيون فتقدر نسبتهم بحوالي35%من مجموع السكان، أما أتباع المعتقدات الطبيعية فتتراوح نسبتهم بين5إلى15% من بقية السكان.


ثانيا: أرتيريا

تعاني أرتيريا من صعوبة واضحة في تحديد هويتها الثقافية، فهذه الدولة ومنذ استقلالها عن أثيوبيا سنة 1993مازالت غير قادرة على التعبير عن هويتها الثقافية بشكل صريح، فهي حائرة بين هويتها العربية والأفريقية، فبحكم التاريخ والتفاعلات المختلفة، بين أرتيريا والعرب تعتبر هي الأقرب للحضارة العربية والثقافة الإسلامية، بل أنه لاتوجد منطقة في أفريقيا خارج أقطار الجامعة العربية تحمل ثقافتها المحلية الطابع العربي كالهضبة الأرتيرية(30). فسكانها تأثروا بالإسلام والعروبة عبر مراحل تاريخية مختلفة، ومن ثم ارتبطوا بالأمة العربية بعلاقات عضوية ثقافية وتاريخية وسياسية ونضال مشترك.

وما الدعم العربي المعنوي والمادي والسياسي لحركات التحرير الأرتيرية المختلفة في نضالها قبل الاستقلال عن أثيوبيا، إلا دليلا على ذلك، بل لأن معظم الحركات الأرتيرية قد تأسست وشكلت في عواصم الدول العربية وخاصة القاهرة.

ومن ثم فإن أي محاولة لإخراجها وإبعادها على توجهها العربي الإسلامي، يعتبر شذوذا عن القاعدة التي حكمت الساحل الأفريقي للبحر الأحمر بدأ من الصومال جنوبا، وحتى مصر شمالا. وإذا ما حللنا المجتمع الأرتيري فسوف نجد العديد من الحقائق التي تزيد من ارتباط الشعب الأرتيري بالأمة العربية، فمن حيث اللغة نجد أن اللغة الأولى في أرتيريا هي العربية والتجرينية، بل أن شتى السكان يتحدثون العربية نظرا لكونها لغة الثقافة والدين لمسلمي أرتيريا، فمن حيث الموقع، فهي عربية أيضا بحكم موقعها المتصل بكل من السودان وجيبوتي، وكذلك باقي الدول العربية بمنطقة البحر الأحمر(31).

ومن حيث الدين فإن أغلب سكان أرتيريا مسلمين، بل إن بعض الإحصائيات تشير بأن نسبة المسلمين تتجاوز78 من السكان، وعلى الرغم من هذه المعطيات فإن أرتيريا

وحال استقلالها اتخذت لنفسها مسار معاكسا لهذه المعطيات، فتوجهت بعيدا عن العرب والمسلمين، ورفضت الانضمام لجامعة الدول العربية، بل أنها تنكرت للغة العربية، وجعلها لغة ثانية بعد التجرينية. مما يعد تنصلا من أحد أهم المبادئ التي ناضل من أجلها الشعب الأرتيري، باعتماد اللغتين العربية والتجرينية، كلغتان رسميتان للبلاد، والاعتراف أيضا بانتماء أرتيريا العربي حضاريا وثقافيا(32)، فالنظام الأرتيري بقيادة أسياس أفورقي تجاوز تلك المعطيات وأدار ظهره للعروبة والإسلام، ووطد من علاقاته ببعض الأطراف المحلية والدولية، التي لا ترغب أن تكون أرتيريا ذات توجع عربي، خاصة وأن هذه الأطراف هي من دعت وأسندت الجبهة، التي يتزعمها أسياس أفورقي خلال السنوات القليلة السابقة على الاستقلال، ولذلك اتجه النظام في أرتيريا نحو القارة الأفريقية  لتصبح أرتيريا بطابع أفريقي، وهوية ثقافية أفريقية جديدة متخطيا للواقع الثقافي والاجتماعي، ومخالفا للحقائق الجغرافية والتاريخية.

ثالثا: جيبوتي

نالت جيبوتي استقلالها عن فرنسا سنة1977، وحال حصولها على الاستقلال انضمت إلى جامعة الدول العربية لتعلن بذلك عن هويتها الثقافية المنتمية إلى المحيط العربي الإسلامي لتأكيد استقلالها السياسي والثقافي عن الاستعمار الفرنسي، الذي استمر أكثر من مائة عام ترك بصماته وتأثيراته المختلفة على الشعب الجيبوتي، خاصة فيما يتعلق بالناحية الثقافية، ومن المعروف أن السياسة الاستعمارية لفرنسا تقوم وتستند على الأساس الثقافي(33)  بمعنى قيامها بربط شعوب مستعمراتها بثقافتها ولغتها ربطا كاملا.

وهو ماكان له عميق الأثر على الهوية الثقافية لجيبوتي المحسوبة بحكم الدين واللغة والتواصل الحضاري إلى الهوية العربية الإسلامية، ولذلك وبعد استقلال جيبوتي ظهر وبشكل واضح ازدواجية الهوية الثقافية لجيبوتي بين الهوية والثقافة العربية، والثقافة الفرانكفونية وترجمة لهذه الازدواجية ثم اعتماد اللغة الفرنسية واللغة العربية كلغتين رسميتين للدولة، الأولى باعتبارها لغة المستعمر والثانية باعتبارها لغة مشتركة يتم التفاهم بها بين المجموعتين المشكلتين لجيبوتي( العفر ولعيسى)، لاسيما وأن لكل مجموعة لغة خاصة بها.

رابعا: الصومال
 عندما قدم المستعمر إلى شرق أفريقيا وتحديدا إلى الصومال ،لم يكن حينها بلد له حدود معروفة، بقدر ماكان يوجد شعب صومالي يعيش في رقعة جغرافية تمتد من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي، عبر خليج عدن، له حضارته الخاصة وتاريخه المميز ويتمتع بعناصر الوحدة الدينية والثقافية والحضارية، وضل كذلك حتى جاء الاستعمار الأوروبي، الذي يعتبر البداية الحقيقية لجذور الأزمة الصومالية التي يعاني منها حتى اليوم، حيث تم تقسيم الصومال إلى خمسة أجزاء، استأثرت بأحدها فرنسا في جيبوتي والجزء الثاني استأثرت به إيطاليا غي الجنوب، أو ماكان يسمى بالصومال الإيطالي والجزء الثالث كان من نصيب بريطانيا في الشمال أو مايسمى بالصومال البريطاني

أما الجزء الرابع فقد تم إلحاقه بكينيا، وهو ما يعرف باسم مقاطعة الحدود الشمالية الشرقية، والجزء الخامس كان من نصيب إمبراطورية الحبشة أو ما يسمى بإقليم الأوجادين(34). وعى أثر هذا التقسيم، قامت الدول الاستعمارية بنشر ثقافتها ولغتها على الإقليم المسيطرة عليه فسادت الثقافة واللغة الإنجليزية والإيطالية والبريطانية على اختلاف الأقاليم التابعة للبلدان المستعمرة.

ومع تعاقب الأجيال تشرب الجيل الصومالي الجديد ثقافة الدول المستعمرة مما أحدث فجوة كبيرة في البنية الاجتماعية أتلف معه الكثير من الروابط اللغوية بين المجتمع الصومالي في المناطق المختلفة. وعلى الرغم من هذه الفجوة الثقافية التي أحدثها الاستعمار بين الأقاليم الصومالية الناطقة بالإنجليزية والإيطالية والفرنسية، فأن الثقافة الصومالية الممزوجة بالثقافة العربية الإسلامية، كانت تفرض وجودها كقوة في مواجهة الثقافات الوافدة مع المستعمر، وظهر ذلك بعد استقلال الصومال عام 1960 ، حيث شرعت الدولة الصومالية( قبل تفككها) بمعالجة الخلل الثقافي الذي تركه المستعمر الأوروبي وساعدها على ذلك مايمتلكه الشعب الصومالي من وحدة الشعور بالهوية القومية القائمة على الوحدة اللغوية والدينية والإثنية والتاريخية، حيث اتجه النظام إلى تأسيس الوحدة الصومالية عن طريق تمجيد اللغة والثقافة الصومالية، فتم معالجة الكسور في اللغة الصومالية، التي لاتكتب بجعلها لغة كتابة ، وإن كانت بالأحرف اللاتينية، وتم استبدال لغة المستعمر( الإنجليزية والإيطالية) باللغة الصومالية منذ عام1973 واعتبارها اللغة الرسمية للدولة، وعندما انضمت الصومال للجامعة العربية تم اعتماد اللغة العربية كلغة رسمية ثانية للدولة الصومالية(35).

ثالثا: الصراعات الداخلية في القرن الأفريقي

تعرضنا سابقا للاختلافات الإثنية والثقافية لدول القرن الأفريقي، واتضح لنا كثافة تلك الاختلافات سواء داخل الدول أو فيما بينه الناتجة بداية بفعل تخطيط وترسيم الحدود السياسة بين دول القرن الأفريقي من قبل الإدارات الاستعمارية، التي لم تراعي عند تخطيطها لتلك الحدود الظروف الطبيعية والتقسيمات البشرية، فالأساس في تخطيطها للحدود كان قائما على تحقيق مصالحها المختلفة في المنطقة(36). فظهرت حدود سياسية غير متجانسة وغير متطابقة مع الحدود الثقافية والاجتماعية الإثنية بين تلك الدول، فتشتت وتوزعت الكيانات الإثنية، والقبلية بين أكثر من دولة، وأصبحت كل دولة عبارة عن خليط غير متجانس من القوميات الإثنيات، الأمر الذي مهد السبيل لظهور بيئة صالحة وخصبة لنشوء الصراعات والتوترات بين هذه الجماعات.

وبعد خروج الاستعمار من القرن الأفريقي ظهرت الدول المستقلة ضعيفة ومحملة بالكثير من الأعباء والمشاكل التي خلفها الاستعمار، فشلت معه في التعامل مع تلك الاختلافات وخلق آلية مناسبة لاستيعاب تلك الاختلافات والتناقضات في إطار الدولة، بل على العكس من ذلك، ساهمت السياسات التي اتبعتها هذه الدول في مرحلة مابعد الاستقلال في تعميق الاختلافات بين الجماعات المختلفة، ولعبت دورا محوريا في الدفع باتجاه الحروب الأهلية، بفعل تكريس النخب الحاكمة لسياسة التميز والتحيز لصالح الجماعة الإثنية، التي تنتمي إليها هذه النخب وحرمان الجماعات الأخرى من حقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما ولد شعورا لدى هذه الجماعات بأنها، مهمشة ومستبعدة بشكل متعمد من قبل هذه النخب، وهو الأمر الذي دفعها إلى تشكيل جبهات معارضة مسلحة، حاولت تغيير الوضع القائم وتحقيق مصالحها، تراوحت أهدافها مابين التغيير الاجتماعي الشامل وتحقيق العدل والمساواة، والخلاص من الظلم، وإقامة دول جديدة(37)،  وبين تحقيق الانفصال عن الدولة الممارسة للاضطهاد. وهذا المناخ دفع بالصراعات في المنطقة إلى درجات عالية من العنف، خاصة مع رفض الأنظمة الحاكمة للالتزام بتحقيق الوحدة في إطار التنوع والاختلاف، بما ينطوي عليه ذلك من احترام الثقافات والمعتقدات للجماعات المهمشة، مما أوجد حالة من عدم الاستقرار فيس منطقة القرن الأفريقي بشكل عام نظرا لتعدد أبعاد ومستويات هذه الصراعات وتعقيدها، فهي ذات طبيعة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية ودينية، وأبعاد داخلية وخارجية ، وكذلك ذات امتدادات تاريخية، ومن هنا فإن أسباب ومحركات الصراعات في منطقة القرن الأفريقي تتداخل مع هذه الطبيعة المركبة بكل جوانبها.

ويقصد بالصراعات الداخلية  Intra-State Conflicts تلك التي تنشب داخل الدولة الواحدة بين جماعات عرقية، أو قبلية، أو بين إقليمين أو أكثر داخل الدولة. وتتعدد أسباب الصراع الداخلي، فقد ينشأ نتيجة المطالبة بالمشاركة في السلطة والثروة، أو نتيجة المطالبة بالانفصال عن الدولة، أو غير ذلك من الأسباب. ويؤدى الصراع الداخلي إلى فقدان حالة الاستقرار السياسي، وربما يصل الأمر إلى انهيار الدولة ككل. وهناك نوع آخر من الصراعات يسمى: الصراعات الدولية Inter-State Conflicts ، وهي تلك التي تنشب بين دولتين أو أكثر، إما بسبب خلاف حول مناطق حدودية بينهما، أو بسبب وجود موارد طبيعية مشتركة داخل المحيط الجغرافي لكل منهما، أو بسبب تدخل إحداهما  أو كلاهما - في الشؤون الداخلية للطرف الآخر أو غيرها من الأسباب. ويأخذ الصراع الدولي أشكالاً مختلفة، فقد يكون مجرد توجيه انتقادات وتوتر في العلاقات، أو قد يصل الأمر إلى قيام أحد الأطراف - أو كلاهما - باستخدام القوة المسلحة تجاه الطرف الآخر.

( وسيرد تفصيل ذلك في الفصل المتعلق بالصراعات الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي). 
   
وتنقسم الصراعات الداخلية التي تشهدها منطقة القرن الأفريقي، إلى ثلاثة أنماط من الصراعات الداخلية وهى الصراعات العرقية، والصراعات القبلية، وصراعات الأقاليم الداخلية.

الصراعات الداخلية

أصبحت الصراعات الداخلية بعد نهاية الحرب الباردة النمط الأكثر شيوعاً داخل القارة الأفريقية بصفة عامة، وداخل منطقة القرن الأفريقي بصفة خاصة، واستنادا إلى معايير مختلفة قدم الباحثون تصنيفات عديدة للصراعات الداخلية توحي جميعها بأنه لا يوجد نمط واحد للصراعات الداخلية.

 الصراعات العرقية Ethnic Conflicts (38).
الصراعات القبلية والعشائرية Tribal Conflicts.
 صراعات الأقاليم الداخليةTerritorial Conflicts .

وهو التصنيف الشائع في القاموس الدولي للتصنيفات والتعريفات إلى معيار طبيعة الأطراف المتصارعة، فهي في النمط الأول جماعات عرقية، وفي الثاني قبائل، وفي الثالث أقاليم داخل الدولة. مع الأخذ في الاعتبار أنه يمكن وضع تصنيفات مختلفة للصراعات الداخلية في منطقة القرن الأفريقي استنادا إلى معايير أخرى مثل أسباب الصراع أو غيرها، وأن الأخذ بمعيار طبيعة الأطراف المتصارعة هو لأغراض الدراسة التي تركز على استجابة الولايات المتحدة الأمريكية كطرف ثالث لتلك الصراعات. كما أنه لا توجد فواصل حقيقية بين الأنماط الثلاثة سالفة الذكر، وقد توجد جميعها داخل دولة واحدة.

 الصراعات العرقية

شهدت منطقة القرن الأفريقي، خاصة بعد نهاية الحرب الباردة، موجة عارمة من الصراعات العرقية اجتاحت الكثير من دول المنطقة. ورغم تعدد الأسباب التي أدت إلى نشوب تلك الصراعات العرقية(39) ، إلا أنه غالبا ما يتم توظيف البعد العرقي بشكل سياسي، وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى المطالبة بحق تقرير المصير، والذي أعتبره جوناثان فوكس Jonathan Fox السبب الرئيسي لتصاعد الصراع العرقي وزيادة أعمال العنف. وهناك عدة سياسات واستراتيجيات تتبعها الدول لمواجهة وإدارة الصراع العرقي منها ما هو سلمى ومنها ما هو قسري .

 ويركز هذا المطلب على دراسة الصراع في أثيوبيا باعتبارها أنموذجا واضحا للصراع العرقي داخل المنطقة.

الصراعات القبلية والعشائرية:

تُعد القبيلة أكثر الأشكال والكيانات الاجتماعية وجوداً في أفريقيا، وهى وحدة اجتماعية واقتصادية وسياسية متماسكة يسودها الولاء الطوعي من جانب الأفراد نحو الجماعة، فهي تحمى هويتهم وتحقق أهدافهم. وتقوم القبيلة على رابطة القرابة Kinship، سواء كانت مستندة إلى رابطة الدم أو مكتسبة عن طريق النسب. وتتفرع القبيلة إلى عدة تفريعات

منها العشائر Clans، والأفخاذ Lineages، والبطون، والبدنات، والفصائل، والأرهاط، والأسر، وغيرها.
ويُقصد بالصراعات القبلية والعشائرية تلك الصراعات التي تنشب بين قبيلتين أو أكثر داخل الدولة، أو التي تنشب بين العشائر والفصائل المختلفة داخل القبيلة الواحدة لأسباب ودوافع مختلفة. ويعتبر الصراع في الصومال من أشهر حالات الصراع القبلي العشائري في منطقة القرن الأفريقي، الصراع في الصومال. 

إذ يتراوح عدد السكان في الصومال ما بين 9 إلى 12 مليون نسمة، ويتحدثون لغة واحدة هي اللغة الصومالية ويدينون بالإسلام وينتمون إلى أصول عرقية واحدة. وتأخذ غالبية السكان بالتقاليد البدوية الرعوية (40)، ولذا كان يُنظر إليها دائما باعتبارها أحد الأمثلة النادرة للدولة المتجانسة عرقيا Ethnically Homogenous State في أفريقيا، والتي تتميز غالبية دولها بالتعدد والتنوع العرقي واللغوي. 

وعلى الرغم من تجانس الشعب الصومالي، إلا أنه يعانى من عدة انقسامات على أسس قبلية وعشائرية وتقسيمات أخرى فرعية. وتوجد داخل الصومال ست قبائل رئيسية، وهى: قبيلة الدارود Daarood (وتمثل نحو 35 % من إجمالي السكان)، والهاوية Hawiye(وتمثل 23% من إجمالى السكان)، والإسحاق Isaaq (وتمثل نحو 23% من إجمالى السكان)، والدير Dir (وتمثل نحو 7% من إجمالى السكان)، والديجل Digil والرحانوينRahanwayan ويمثلان معا نحو 11% من إجمالى السكان. وتنقسم هذه القبائل إلى عشائر Clans، حيث تنقسم قبيلة الإسحاق على سبيل المثال إلى ثماثى عشائر رئيسية هى: هبر أوال Habar Awal، وهبر يونس Habar Yunnis، وهبر الإديجال Habar Lidegalle، والعرب، وأربعة عشائر لهبر جالو Habar Ja’ Lo. وتنقسم العشائر إلى فصائل Sub-Clans، وتنقسم الفصائل إلى مجموعات النسب الأساسية Primary Lineage Group، وتنقسم الأخيرة إلى مجموعات دفع الدية The Dia-Paying Group . وعلى الرغم من أنه لا توجد منطقة جغرافية محددة لكل قبيلة، إلا أن قبائل الإسحاق والدير تتركز في الشمال، بينما تتركز قبائل الديجل والرحانوين في الجنوب، وتنتشر قبيلة الهاوية حول العاصمة مقديشيو، في حين تنتشر قبيلة الدارود في الجنوب والشمال، واشتغـلت القبـائـل التي سكنت المناطق الجنوبيـة Sab بالزراعة(41).

بينما اشتغل سكان المناطق الشمالية Samaale بالرعي. وقد ساهم الاستعمار في تعميق الفوارق والاختلافات بين القبائل داخل الأقاليم الصومالية المختلفة، خاصة وأنها لم تخضع لمستعمر واحد حيث خضع الإقليم الشمالي والمنطقة التي تقع الآن في شمال كينيا للاستعمار البريطاني، وخضع الجنوب للاستعمار الإيطالي، وسيطرت فرنسا على المنطقة التي تُعرف الآن بجيبوتي، كما قامت إثيوبيا بضم الصومال الغربي (الأوجادين) إليها.

 صراعات الأقاليم الداخلية

يُقصد بصراعات الأقاليم تلك الصراعات التي تنشب بين إقليمين مختلفين داخل الدولة الواحدة، وعادة ما توجد الحكومة في أحدهما. وينشأ الصراع لأسباب مختلفة، فقد ينشأ نتيجة مطالبة أحد الإقليمين بالمشاركة في السلطة أو الثروة (أو في كليهما)، أو نتيجة المطالبة بالانفصال عن الدولة، أو حتى نتيجة وجود اختلافات عرقية بين سكان الإقليمين، أو غير ذلك من الأسباب.

قائمة  المصادر والمراجع:

 (1) تنوعت الآراء حول تعريف القرن الأفريقي وحدوده، وإننا من خلال هذه الرسالة، سوف نتبنَّى تعريف المنظمات الدولية والإقليمية والسياسية التي تقصد بالقرن الأفريقي: الصومال، وأثيوبيا، وأرتيريا، وجيبوتي كوحدات سياسية قائمة تشكل رقعة إستراتيجية على خريطة القارة الأفريقية.
(2) إجلال محمود رأفت وإبراهيم أحمد نصر الدين، القرن الأفريقي: المتغيرات الداخلية والصراعات الدولية. القاهرة، دار النهضة العربية، 1985.ص20
(3) علي محمد بهي، أرتيريا: دراسة في الجغرافيا السياسية، رسالة ماجستير،( القاهرة: جامعة القاهرة ، معهد البحوث والدراسات الأفريقية،2002 ،ص30-31.
(4) د/إجلال رأفت: الأمن القومي لمنطقة القرن الأفريقي، سلسلة بحوث سياسية، ( القاهرة: جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، مركز البحوث والدراسات السياسية، العدد65، مايو1993،ص1-2
(5) د/ عثمان ناصر علي: القرن الأفريقي في مطلع الألفية الثالثة... م.س.ذ، ص251.
(6) د/ جلال رأفت ود/ إبراهيم نصر الدين، القرن الأفريقي: المتغيرات الداخلية والصراعات الدولية، ( القاهرة: دار النهضة العربية1985) ص143.
(7) جلال يحيى ومحمد نصر مهنا، مشكلة القرن الأفريقي وقضية شعب الصومال. القاهرة، دار المعارف، 1981.ص54
(8) زكريا محمد عبد الله " أمن البحر الأحمر والأمن القومي" شؤون عربية، القاهرة: جامعة الدول العربية الأمانة العامة، العدد(88)، ديسمبر1996،ص261.
الخارجية تجاه قضايا القرن الأفريقي1990-1999"، القاهرة: جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية،2002،ص106
(9) التقرير الاستراتيجي العربي،1993، القاهرة، الأهرام، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية1994،ص112
(10) عميد بحري/ محرز الحسيني،" البحر الأحمر والأمن القومي العربي، السياسة الدولية، العدد(124)، أفريل1996،ص75.
(11) د/ حمدي عبد الرحمن،" إسرائيل وأفريقيا في عالم متغير: من التغلغل إلى الهيمنة"، القاهرة، جامعة القاهرة ، كلية العلوم السياسية والاقتصاد، العدد(3)، أكتوبر2001،ص2.
(12)عاطف صقر، " النزاع الصومالي والصراع الدولي في القرن الأفريقي، القاهرة: العمرانية الشرقية،1996،ص96.
(13)  مركز الشرق الأوسط، تداعيات الصراع في القرن الأفريقي على الوطن العربي،ص7-8
(14) التقرير الاستراتيجي الأفريقي،2001-2002، القاهرة: جامعة القاهرة، معهد البحوث والدراسات الأفريقية،2002،ص339.
(15) إجلال محمود رأفت وإبراهيم أحمد نصر الدين، القرن الأفريقي: المتغيرات الداخلية والصراعات الدولية. القاهرة، دار النهضة العربية، 1985.ص20.
(16) د/نيفين حليم،" العنف والحروب المسلحة في أفريقيا3، بحث مقدم إلى ندوة أفريقيا اليوم: قضايا داخلية وخارجية، فبراير2000، القاهرة: جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، مركز البحوث والدراسات السياسية،ص2.
(17) التقرير الإستراتيجي العربي، 1993، القاهرة: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، 1993 ص115-116.
(18) علي أحمد نور( طرابلسي ) النزاع الصومالي الإثيوبي. القاهرة، مطبعة أطلس، 1978.ص55
(19)  علي الشيخ أحمد أبوبكر، الصومال وجذور المأساة الراهنة. بيروت، دار ابن حزم، 1992.ص103.
(20) د/ عبد العزيز راغب شاهين،" التنوع والصراع الإثني في بعض مجتمعات حوض النيل، دراسة في الأنثروبولوجيا السياسية، 1999، القاهرة، جامعة القاهرة/ مركز البحوث والدراسات الأفريقية،ص7.
(21) عبدي عواله جامع، م.س.ذ.ص13.
 (22) لويجي بستالوزا، الثورة الصومالية (ترجمة : إبراهيم العريس). بيروت، دار ابن خلدون، 1975.ص64.
(23) علي إبراهيم عبد الواحد، حكايات من أرض الصومال، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2007 .ص7
(24)علي إسماعيل محمد، الصومال والحركات الوطنية والأطماع الدولية وأهمية وحدة الصف الوطني. 1996.ص81.
(25) د/ عبد السلام إبراهيم بغدادي، "الوحدة الوطنية ومشكلة الأقليات في أفريقيا"..م.س.ذ،ص32
(26) د/ نيفين عبد المنعم مسعد،"الأقليات والاستقرار السياسي في الوطن العربي"، القاهرة: جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية،1988، ص118.
(27) محمود يوسف موسى، "القبيلة وأثرها في السياسة الصومالية في الفترة1960-1997، الخرطوم: جامعة أفريقيا العالمية، مركز البحوث والدراسات الأفريقية2000، ص 25-27.
(28) د. نجوى الفوال، "إشكاليات الدولة في الصومال: العامل القبلي"، بحث مقدم إلى ندوة أفريقيا اليوم: قضايا داخلية وخارجية القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية والمركز الفرنسي للثقافة والتعاون، 1-2 فبراير 2000، ص 4.
(29) د. إجلال رأفت، "الأزمة الصومالية"، المستقبل العربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 173، يوليو 1993)، ص 22.  
(30) إجلال محمود رأفت وإبراهيم أحمد نصر الدين، القرن الأفريقي: المتغيرات الداخلية والصراعات الدولية،م.س.ذ،ص40.
(31) جلال يحيى ومحمد نصر مهنا، مشكلة القرن الأفريقي وقضية شعب الصومال،م.س.ذ،ص45.46.
(32) د. إبراهيم أبو عوف محمد، "التنوع القبلي وآفاق الاندماج القومي"، دراسات أفريقية (الخرطوم: مركز البحوث والدراسات الأفريقية، المجلد 19، العدد 30، ديسمبر 2003)، ص 21.
(33) حورية توفيق مجاهد" الإسلام في أفريقيا وواقع المسيحية والديانات التقليدية، القاهرة، مطبعة الأنجلو مصرية،2002،ص16.
(34) أحمد برخت ماح، "ماذا يحدث في الصومال"، هرجيسا، دارهرجيسا للطباعة والنشر،1988.ص31-32.
(35) أحمد عبد الله ريراش، كشف السدول عن تاريخ الصومال وممالكهم السبعة. مقديشو، وكالة الدولة للطباعة، 1974. ص211.
(36) أنظر في ذلك:robert ,jervis : international politics :enduring concepts and contemprary issues,(new york-wastey educational publishers ;inc ;2003,p.p267-268
(37) أحمد إبراهيم محمود، الحروب الأهلية في أفريقيا، القاهرة: مؤسسة الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية،2001،ص103-104.
(38) Rayam Akhavan, “The Lord’s Resistance Army Case: Uganda’s Submission of the First State Referral to the International Criminal Court”, The American Journal of International Law (Washington, D. C.: American Society of International Law, Vol. 99, No. 2, April 2005), pp. 406-409.
(39) -أحمد إبراهيم محمود، الحروب الأهلية في أفريقيا ، م. س. ذ ، ص 220. أنظر أيضا:
Susan Dicklitch, “A Basic Human Rights Approach to Democracy in Uganda”, Journal of Contemporary African Studies (London: Carfax Publishing Company, Vol. 20, No. 2, July 2002), p. 208.
(40) Pal Ahluwalia & Abebe Zegeye, “Uganda: No- Party State or One- Party State?”, in Pal Ahluwalia & Abebe Zegeye (eds.), African Identities: Contemporary Political and Social Challenges (London: Ashgate Publishing Ltd., 
Next Post Previous Post