#مقال: كيف شكّلت الحروب أجيالاً من #الصوماليين وسحقت أحلامهم؟ بقلم الأديب #الصومالي حسن محمود قرني


"لا أحد يعود من الحرب كما كان" مقولة شهيرة ظلت راسخة في أفواه المقهورين بعد كل حرب عبثي كنا نستطيع الابتعاد عنه، وكذلك المدن لا تبتسم كعادتها ولا يلتئم جرح الأوطان بعد الحرب، إنه أسوأ ما عرفته البشرية، يدمّر الشعوب ويشوّه التاريخ والحضارة، ولاينجز سوى دموع الأمهات وانتشار الفقر والدماء، وتغيير الملامح والهوية والوعي.

الكتابة عن الحروب تعيدني إلى ذكريات الطفولة الضائعة في مرابع عشيرتي الممتدة بامتداد السمرة والإبل، ومعها أمرّ عبر الخيال الذي يتسع كلما أتوغل في مأساتها ثورات اللاتين، وانقلابات أفريقيا، وهمجية الحضارة الغربية المدمرة، وتخمة العرب من الصراعات الصفرية، والصومال المزدحمة بالإختلافات وحروب أفقدتها نعمة الأمن ومواكبة العالم ومحاربة الفقر الذي قال رئيسها ذات يوم وهو في قلب مقديشو: إن عام 2000م سيكون آخر عام سيوجد على وجه الأرض صومالي جائع لايجد لقمة شريفة تسد رمقه، كانت وعودا فارغة أطلقها آخر المستبدين الوطنيين كما أطلق مدافعه على المدن الصومالية، وطلقات المدافع أسرع من وعود السياسين الذين أخفقوا في إيجاد الحلول الناجعة لأزمات بلادهم.

لم تتحقق تلك الأمنية العابرة لرئيس ظل رمزا وطنيا قبل أن يجرفه الاستبداد بعيدا عن أحلام الشعب ومبادئه، بل توغلنا في عقود كريهة كان صوت الرصاص هو الفصل الحتمي لأتفه الأسباب من شجار الأطفال إلى تلاسن الأصدقاء وحكايات الجدات الطاعنات وصراع الجبابرة، وكان الفرقاء الصوماليون يبتسمون في العلن وأمام الكاميرات في العواصم العربية والأفريقية وفي مؤتمراتهم المتعددة ويوزعون الموت في الخفاء، مما أذهل العالم وجعله حيارى حيال هذه الأزمة المتجددة.

عشنا بين الأمم مطأطئ الرؤوس، والتهمتنا الجوع ونحن نعيش في بلد يعدّ من أخصب البلاد الأفريقية والعربية، وساقنا الظمأ إلي توابيت الموت ونحن على ضفاف الأنهار وبحيرات من المياه الجوفية، ولاغرو في ذلك فالعقول القاحلة حوّلت السهول والمدن المطلّة على الأنهار الى صحراء، بينما العقول المنتجه جعلت الصحراء مروجاً وأنهاراً!

لقد ترك الحرب جرحا عميقا في البئية والحياة والسلوك، فبدأ الجيمع يسأل ويبحث عن زاوية غير تقليدية لإكتشاف ذواتهم ومعرفة ماهية الحرب مما ألهم الشعراء والأدباء والكتاب، وصنع جيلا جديا أبدع بعضهم في وصف الحروب بالقصائد والأشعار والمسرحيات والنكت وقليل من التدوين والكتابة، وبرزت النكسات المتتالية كتاباً ورسامين ومواهب إستطاعت تعبير الحروب بكثير من الإبداع والمعاناة، وحولوا التشرذم إلى سرديات موجعة، ورسوم ملهمة، وحكايات شفهية تغوص في أعماق المأساة، وألحان تعبر عن مشاعر المقهورين ونبضات المحبين وملامح المهاجرين من ديارهم إلى المنافي البعيدة، وقصص تؤرخ للحروب وتخرج الحقيقة الكامنة وراء ركام الأوطان والقلوب الخانقة إلى صدارة الجرائد وشاشات التلفزة. والحقيقة في زمن الصراعات تختفي على وقع هدير الرصاص وتضيع الأشياء في عمق الجروح الغائرة.

وأخفق بعضهم كالفن الصوتي ــ الأغنية ــ حيث توارى في محراب الحب وألوان الصبا ومفاتن المرأة والرومانسية المفرطة، وكان في معظمه غريبا هابطا لايمتّ بماضي وأحاسيس وثقافة الشعب بأي صلة، ولا يحاول تخفيف الألم عن كاهيل الكادحين إلا ما ندر، وبدا الفنان وكأنه يغنّي لمجتمع مثالي تعمه السلام وتحفه الطمأنينة، ومن الغريب أنهم يحييون ليالي الحمراء في المنافي في حين كان الدم يسيل في الطرقات، وبعضهم شاركوا في فصول الحرب وأسقطوا عن عيون الشعب إلى الأبد، وقصارى القول كان الفن والأغاني "الإيروتيكية" في واد والواقع في واد آخر.

وكذلك أخفق المثقفون سياسيا ودفنوا رؤوسهم في رمال الصومال المتحرك واتصفوا بالانطوائية والشوفينية لأفكارهم بعيدا عن المجتمع ومشاكله الحقيقية، وطفقوا يحللون الواقع ويلعنون الحاضر وقد احتفظوا بأماكنهم البعيدة عن معترك السياسة بكل برودة. كانوا ينشرون نظرياتهم عن الوطن وعن الحروب وعن الإسلام والثقافة والسياسة والدولة والقبيلة دون أن يقدموا مقترحات حقيقية لإنتشال الوطن، بل كانوا يتهربون من مسؤلياتهم ويتذرعون بأسباب واهية دون أدنى شعور بالذنب، وقد انتهز هذه الفرصة زعماء القبائل ومجرمي الحرب فتصدروا على المشهد السياسي والاقتصادي مما أبعد الحلول.

لقد تمرّد المثقفون عن الواقع القبلي العفن وابتعدوا عن قيادة الدولة وتأثير القبيلة ــ حسب أدبياتهم ــ ولكنهم أبدعوا في حقول التعليم وإنتاج المعرفة فأسّسوا المدارس والمعاهد والجامعات، وساهموا في نشر ثقافة التدوين والكتابة، ووثقوا المجازر والانتهاكات ضد الإنسانية واغتصاب براءة الأطفال وزجهم في الحروب الأهلية، وساهموا في إبراز الزوايا الأكثر إيلاما من زوايا الحروب، وتصوير المشهد ومساعدة الآخرين على فهم الأحداث كما كانت وكيف حدثت بدون تهويل أو تزييف أو تضليل أو تجزئة.

ورغم أن الكتابة لاتستطيع برومانسيتها ورفاهيتها في خيال المجتمعات ذات الثقافة الشفهية بناء مستقبل مشرق وسلام داخلي ما لم تتكاتفه جهود القوى الفاعلة في الساحة بكل أنواعها وايديولوجياتها، إلا أنها تظل النافذة الأهم التي نشهد من خلالها سوداوية الحروب وتعليق القوانين، وعبرها نستطيع نشر ثقافة التسامح والسلام والتعايش السلمي بين أطياف المجتمع، وفي هذا السياق يجدر بنا أن نذكر أن الكتابة عن الحرب تبدوا في خيال البعض مهنة لاتقل بشاعة عن الحرب نفسه! حيث تُنقل اللحظات الأكثر بؤسا وعنفا في تاريخ البشرية إلى الأجيال القادمة لنكدر عليهم حياتهم بأحداث لم عاصروها وأهوال كانوا في غنى عنها.

ولكن الجانب الأكثر وحشية للحروب هو أنه سينتهي وإن تمدد، وتتصالح الدول والشعوب والقبائل، وسيظهر على السطح مجرمون برتبة زعماء، وسيمنح على الجنرالات أوسمة ونياشين وجوائز تقديرية لإباداتهم المروعة ضد الأبرياء، وسيجني أثرياء الحروب وصناع البؤس ملايين الدولارات من دماء الكادحين! ووحدهم البسطاء يعانون ويموتون من أجل مبادئ ظالمة وحروب خاسرة في كل الأحوال، يزهقون أرواحهم، ويفقدون أحبابهم، ويخسرون أعضائهم، وتصيبهم التشوهات من أجل مستبد همّه الكرسي وإن مات الملايين من أجله، ويستميتون في الدفاع عن ناهبي أوطانهم في حرب لايعرفون أساسه ولايدركون أهميته القانونية والأخلاقية والإنسانية! فقط سمعوا عبر أبواق المجرمين أنه الدفاع عن وطن لم يقدم لهم شئيا سوى الفاقة والأمراض والجهل، وأنه حرب جيد يستحق الموت علما بأنه لايوجد حروب جيدة وأخرى سيئة. ويتساءلون بحسرة: لماذا السلم رغم جماله مفقود والحرب رغم بشاعته موجود؟

كيف نموت من أجل دولة يملكها طاغية وتحلبها عائلة وتبدأ من حيث تنتهي القبيلة أو المصلحة أو الطائفة؟، وظلت عاملا هامشيا في حياتنا، ولم نعطها يوما ولاء حقيقيا بعد أن ترسبت الموروثات الثقافية والاجتماعية وتأثير القبيلة وقدسيتها في مخيلتنا، وارتبط ولاؤنا الأول للقبيلة أكثر من الدولة، وبالتالي أصبحت الدولة عاملا تابعا للقبيلة وليس العكس؟ لقد أخذت الدولة في أوطاننا مفهوماً كارثيا بكل المقاييس حيث اختفى التابع (الدولة) وبقي المتبوع ( القبيلة) تتعملق وتسيطر على حياة الشعب مما أدى إلى انهيار تام بالمؤسسات الوطنية واشتعال حرب أنتج شعبا شرساً ومتوحشاً للغاية يعاني من الأمراض النفسية والشحنات السالبة.


وبعد تعمق الخوف في عقول المجتمع تحوّل البشر إلى جلّادين، والعالم أفقا شاسعا من القتامة والظلامية، ووسعت تلك النظرة الشرخ الداخلي وأضعفت نسيج المجتمع وغرست في خيالهم أمراضا وهلوسات سلبت السعادة والإيجابية عنهم، وبذلك اختفت قيم الأخلاق والجمال والدين وانتشرت السلبية لتغطي مساحات شاسعة من قلوبهم، وتحوّل إدراكهم ووعيهم الجمعي إلى ثيمة يرون من خلالها المواطن وكأنه "آخر مختلف" يسعى إلى قتلهم وسطوة مافي جعبتهم.

وأنتشرت الكراهية وعمّ الفشل بين الطبقات وأخفقنا في أن نبدأ الحياة من جديد بعد سنوات من الحرب المروع، وبات الجندي الذي دأب القتال والسادية في الميادين والشراسة في الثغور يخفق في منح الحب لعائلته واحترام القانون، والطفل الذي فقد البراءة في براثن الحرب وبزغت طفولته في معمعة الوغى التكيف على الحياة الهادئة بعيدا عن أزيز المدافع وزخات الراجمات والعنف الأسري والمجتمعي، والأم المكلومة التي فقدت فلذة كبدها التلذذ بسلام لاتعني لها سوى ذكريات موجعة.


لقد دمّرت الحروب كثيرا من أحلامنا وكرامتنا، وعشنا في ظل فوضى عارمة ووطن غارق بالدموية والأزمات السياسية والدينية والقبيلية، وشكّلت الحروب أجيالاً من الصوماليين، وسحقت أحلامهم وأفقدتهم القدرة على الحياة والتبسم والتذوق بالجمال وتقديس الحياة

بقلم الأستاذ : حسن محمود قرني
Next Post Previous Post